بالنسبة إلى ما أحرجه من التكذيب إذ لا شيء فيه قطعًا بدليل قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} [الكهف: 6] أي قاتل نفسك أسفًا وكان التعبير بقوله حصل له ذلك لما أحرجه أحسن من قوله فعل لأن الحزن حالة تحصل للإنسان يجدها من نفسه بسبب لا أنه من أفعاله الاختيارية.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف في باب بدء الوحي.
(قال) ولأبي ذر وقال (ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله الطبري من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فالق الإصباح} [الأنعام: 96] الإصباح (ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل) واعترض على المؤلّف بأن ابن عباس فسر الإصباح لا لفظ فالق الذي هو المراد هنا، لأن المؤلّف ذكره عقب هذا الحديث لما وقع فيه فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والإصباح مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو فالق نور النهار. نعم قال مجاهد كما سبق في تفسير {قل أعوذ برب الفلق} [الفلق: 1] الفلق: الصبح. وأخرج الطبري عنه أيضًا في قوله فالق الإصباح. قال: إضاءة الصبح، وعلى هذا فالمراد بفلق الصبح إضاءته فالله سبحانه وتعالى يفلق ظلام الليل عن غرّة الصباح فيضيء الوجود ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل، وقول ابن عباس هذا ثابت في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني وكذا النسفيّ، ولأبي زيد المروزي عن الفربري.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].
(باب رؤيا الصالحين) والإضافة للفاعل وفي نسخة الصالحة وعليها يحتمل أن يكون الرؤيا بالتعريف (وقوله) بالجر عطفًا على السابق ولأبي ذر وقول الله (تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا}) أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوًّا كبيرًا وقال في فتوح الغيب هذا صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق رؤيته وحذف الجار وأوصل الفعل كقوله: {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] ({بالحق}) متلبسًا به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل ويجوز أن يكون بالحق صفة مصدر محذوف أي صدقًا متلبسًا
بالحق وهو القصد إلى التمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض وأن يكون قسمًا إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو من أسمائه وجوابه ({لتدخلن المسجد الحرام}) وعلى الأول هو جواب قسم محذوف ({إن شاء الله}) حكاية من الله تعالى قول رسوله لأصحابه وقصه عليهم أو تعليم لعباده أن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدّبين بأدب الله ومقتدين بسنته ({آمنين}) حال والشرط معترض ({محلقين}) حال من الضمير في آمنين ({رؤوسكم}) أي جميع شعورها ({ومقصرين}) بعض شعورها ({لا تخافون}) حال مؤكدة ({فعلم ما لم تعلموا}) من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل ({فجعل من دون ذلك}) من دون فتح مكة ({فتحًا قريبًا}) [الفتح: 27] وهو فتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود وتحققت الرؤيا في العام القابل. وقد روي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أري وهو بالحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه محلقين فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك: فنزلت رواه الفريابي وعبد بن حميد والطبري من طريق ابن أبي نجيح، وسقط لأبي ذر في روايته ({محلقين}) إلى آخرها وقال بعد قوله: {آمنين} إلى قوله: {فتحًا قريبًا}.
6983 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» [الحديث 6983 - طرفه في: 6994].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب القعنبي (عن مالك) الإمام الأعظم (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري المدني (عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الرؤيا الحسنة) أي الصالحة (من الرجل الصالح) وكذا المرأة الصالحة غالبًا (جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة) مجازًا لا حقيقة لأن النبوّة انقطعت بموته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجزء النبوّةِ لا يكون نبوة كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة. نعم إن وقعت من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهي جزء من أجزاء النبوّة حقيقة. وقيل: إن وقعت من غيره عليه السلام فهي جزء من علم النبوّة لأن النبوّة وإن انقطعت فعلمها باق، وقول مالك -رحمه الله- لما سئل أيعبر الرؤيا كل أحد فقال أبالنبوة تلعب، ثم