والأسفار متنقبات لئلا يراهن الرجال ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهن النساء فدلّ على اختلاف الحكم بين الفريقين، وبهذا احتج الغزالي للجواز فقال: لسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإن لم تكن فتة فلا إذ لم تزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج انتهى.
وقال النووي: نظر الوجه والكفّين عند أمن الفتنة من المرأة إلى الرجل وعكسه جائز وإن كان مكروهًا لقوله تعالى في الثانية: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] وهو مفسر بالوجه والكفّين وقيس بها الأولى وهذا ما في الروضة عن أكثر الأصحاب، والذي صححه في المنهاج التحريم وعليه الفتوى، وأما نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون فليس فيها أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم ولا يلزم منه تعمّد النظر إلى البدن وإن وقع بلا قصد صرفته في الحال مع أن ذلك كان مع أمن الفتنة أو أن عائشة كانت صغيرة دون البلوغ ويدل لها قولها (فاقدروا) بضم الدال المهملة أي فانظروا وتدبروا (قدر الجارية الحديثة السن) الغير البالغة (الحريصة على اللهو) ومصابرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معها على ذلك لكن عورض بأن في بعض طرقه أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة وأن قدومهم كان سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة فكانت بالغة. نعم احتج المانعون بحديث أم سلمة المشهور حيث قال عليه الصلاة والسلام: "أفعمياوان أنتما" وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها وإسناده قوي. قال في الفتح: وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا تردّ روايته.
(باب خروج النساء لحوائجهن) قال في القاموس: الحاجة معروفة والجمع حاج وحاجات وحوج وحوائج غير قياسي أو مولدة أو كأنهم جمعوا حائجة. زاد الجوهري فقال: وكأن من الأصمعي ينكره وإنما أنكره لخروجه عن القياس إلا فهو كثير في كلام العرب وينشد:
نهار المرء أمثل حين ... يقضي حوائجه من الليل الطويل
وحينئذ فقول الداودي في هذا الجمع نظر لأن جمع الحاجة حاجات وجمع الجمع حاج ولا يقال حوائج لا يخفى ما فيه.
5237 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَهْوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّي، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: «قَدْ أَذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (فروة بين أبي المغراء) بالفاء والواو المفتوحتين بينهما راء ساكنة وفتح ميم المغراء ورائها بينهما غير معجمة ساكنة ممدود الكندي الكوفي قال: (حدّثنا علي بن مسهر) بالسين المهملة أبو الحسن الكوفي الحافظ (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: خرجت سودة بنت زمعة) أم المؤمنين -رضي الله عنها- بعد الحجاب (ليلًا) للبراز. زاد في تفسير سورة الأحزاب: وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها (فرآها عمر) -رضي الله عنه- (فعرفها فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا) حرصًا على أن أمهات المؤمنين لا يبدين أشخاصهن أصلًا ولو كنّ مستترات. وقالت عائشة (فرجعت) سودة (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك) الذي قاله لها عمر (له وهو في حجرتي يتعشى وإن في يده لعرقًا) بفتح العين وسكون الراء بعدها قاف عظم عليه لحم واللام للتأكيد (فأنزل) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر: فأنزل الله (عليه) الوحي (فرفع عنه) ما كان فيه من الشدة بسبب نزول الوحي (وهو يقول):
(قد أذن الله لكنّ) أمهات المؤمنين (أن تخرجن لحوائجكن) أي للبراز دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج، وقد تمسك به القاضي عياض فقال: فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف