فأعطاك ربك ما تشتهيه ... وأجزل حظك فيما يهب
وخصك في عرصات الجنان ... بخير يدوم ولا يقتضب
فلله دره من تأليف رفع علم علمه بمعارف معرفته، وتسلسل حديثه بهذا الجامع فأكرم بسنده العالي ورفعته، انتصب لرفع بيوت أذن الله أن ترفع، فيا له من تصنيف تسجد له جباه التصانيف إذا تليت آياته وتركع، هتك بأنوار مصابيحه المشرقة من المشكلات كل مظلم، واستمدت جداول العلماء من ينابيع أحاديثه التي ما شك في صحتها مسلم، فهو قطب سماء الجوامع، ومطالع الأنوار اللوامع، فالله تعالى يبوّىء مؤلفه في الجنان منازل مرفوعة، ويكرمه بصلات عائدة غير مقطوعة ولا ممنوعة.
الفصل الخامس
في ذكر نسب البخاري ونسبته ومولده وبدء أمره ونشأته وطلبه للعلم وذكر بعض شيوخه ومن أخذ عنه ورحلته وسعة حفظه وسيلان ذهنه وثناء الناس عليه بفقهه وزهده وورعه وعبادته وما ذكر من محنته ومنحته بعد وفاته وكرامته
هو الإمام حافظ الإسلام خاتمة الجهابذة النقاد الأعلام، شيخ الحديث وطبيب علله في القديم والحديث، إمام الأئمة عجمًا وعربًا، ذو الفضائل التي سارت السراة بها شرفًا وغربًا، الحافظ الذي لا تغيب عنه شاردة، والضابط الذي استوت لديه الطارفة والتالدة، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بضم الميم وكسر المعجمة ابن بردزبه بفتح الموحدة وسكون الراء يعدها دال مهملة مكسورة فزاي ساكنة فموحدة مفتوحة فهاء على المشهور في ضبطه وبه جزم ابن ماكولا وهو بالفارسية الزراع الجعفي ضم الجيم وسكون العين المهملة بعدها فاء وكان بردزبه فارسيًا على دين قومه ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفي وإلي بخارى فنسب إليه نسبة ولاء عملاً بمذهب من يرى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له، ولذا قيل للبخاري الجعفي، ويمان هذا هو جد المحدث عبد الله بن محمد بن جعفر بن يمان الجعفي المسندي. قال الحافظ ابن حجر وأما إبراهيم بن المغيرة فلم نقف على شيء من أخباره، وأما والد البخاري محمد فقد ذكرت له ترجمة في كتاب الثقات لابن حبان فقال في الطبقة الرابعة: إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري، يروي عن حماد بن زيد ومالك، روى عنه العراقيون وذكره ولده في التاريخ الكبير، فقال إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سمع من مالك وحماد بن زيد وصحب ابن المبارك، وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وكان أبو البخاري من العلماء الورعين وحدّث عن أبي معاوية وجماعة وروى عنه أحمد بن جعفر ونصر بن الحسين، قال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن إسماعيل بن إبراهيم عند موته فقال لا أعلم في جميع مالي درهمًا من شبهة، فقال أحمد فتصاغرت إليّ نفسي عند ذلك. وكان مولد أبي عبد الله البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوّال. وقال ابن كثير ليلة الجمعة الثالث عشر من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى وهي بضم الموحدة وفتح الخاء
المعجمة وبعد الألف راء، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينها وبين سمرقند ثمانية أيام، وتوفي أبوه إسماعيل وهو صغير فنشأ يتيمًا في حجر والدته، وكان أبو عبد الله البخاري نحيفًا ليس بالطويل ولا بالقصير، وكان فيما ذكره غنجار في تاريخ بخارى واللالكائي في شرح السُّنَّة في باب كرامات الأولياء: قد ذهبت عيناه في صغره فرأت أمه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في المنام فقال لها: قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له فأصبح وقد رد الله عليه بصره، وأما بدء أمره فقد رُبيَّ في حجر العلم حتى ربا، وارتضع ثدي الفضل فكان فطامه على هذا اللبا.
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: قلت للبخاري كيف كان بدء أمرك؟ قال: ألهمت الحديث في المكتب ولي عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من المكتب بعد