جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد وهو مصادم للأدلة القطعية الدالّة على دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة؟ أجيب: بأن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم يموت على ذلك، أو أن المراد بالتحريم هنا تحريم الخلود لا أصل الدخول أو أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب أن الموحد يعمل بالطاعات ويجتنب المعاصي، أو من قال ذلك مؤديًا حقه وفرضه، أو المراد تحريم النار على اللسان الناطق بالشهادتين كتحريم مواضع السجود.
(قال) معاذ (يا رسول الله أفلا) بهمزة الاستفهام وفاء العطف الحذوف معطوفها والتقدير أقلت ذلك فلا (أخبر به الناس فيستبشروا) نصب بحذف النون والتقدير فأن يستبشروا، ولأبي ذر فيستبشرون بالنون أي فهم يستبشرون. (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذًا) أي إن أخبرتهم (يتَّكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي يعتمدوا على الشهادة المجردة، وللكشميهني ينكلوا بنون ساكنة وضم الكاف من النكول وهو الامتناع أي يمتنعوا عن العمل اعتمادًا على مجرد التلفّظ بالشهادتين (وأخبر) وفي رواية أخبر بغير واو (بها معاذ عند موته) أي موت معاذ (تأثمًا) بفتح المثناة الفوقية والهمزة وتشديد المثلثة نصب على أنه مفعول له أي تجنبًا عن الإثم إن كتم ما أمر الله بتبليغه حيث قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام في التبشير؟ أجيب بأن النهي كان مقيدًا بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك أو أن النهي إنما كان للتنزيه لا للتحريم، وإلاّ لما كان يخبر به أصلاً. وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذن لمعاذ في التبشير فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: لا تعجل ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيًا لأن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها. قال: فرده فرده. وقد تضمن هذا الحديث أن يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله ومن يخاف عليه الترخيص، والاتكال لتقصير فهمه وهو مطابق لما ترجم له المؤلف.
129 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِمُعَاذٍ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ». قَالَ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ. إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان بن طرخان البصري نزيل بني تميم، المتوفى بالبصرة سنة سبع وثمانين ومائة (قال: سمعت أبي) سليمان المتوفى بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومائة (قال: سمعت أنسًا) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر أنس بن مالك (قال ذكر لي) على صيغة المجهول ولم يسمّ أنس من ذكر له ذلك وهو غير قادح في صحة الحديث لأن متنه ثابت من طريق أخرى، وأيضًا فأنس لا يروي إلا عن عدل صحابي أو غيره فلا تضر الجهالة هنا، ويحتمل أن يكون عمرو بن ميمون أو عبد الرحمن بن سلمة.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لمعاذ): زاد في رواية غير أبوي ذر والوقت ابن جبل ومقول القول (من لقي الله) أي مات حال كونه (لا يشرك به شيئًا) حين الموت (دخل الجنة) وإن لم يعمل صالحًاً إما قبل دخوله النار أو بعده بفضل الله ورحمته، واقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ولم يذكر إثبات الرسالة لأن نفي الإشراك يستدعي إثباتها للزوم أن من كذب رسل الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو كافر أو هو نحو من توضأ صحت صلاته أي عند وجود سائر الشروط فالمراد من لقي الله موحدًا بسائر ما يجب الإيمان به (قال) معاذ وفي رواية أبي ذر فقال: (ألا أبشر الناس) بذلك (قال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا) تبشرهم ثم استأنف فقال (أخاف أن يتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي أخاف اتكالهم على مجرد التوحيد، وفي رواية كريمة وأبي الوقت قال: لا إني أخاف، وعلى الرواية الأولى ليست كلمة النهي داخلة على أخاف فافهم.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
هذا (باب الحياء) بالمد (في) تعلم (العلم) وتعليمه (وقال مجاهد) أي ابن جبر التابعي الكبير مما وصله أبو نعيم في الحلية من طريق علي بن المديني عن ابن عيينة من منصور عنه بإسناد صحيح على شرط المؤلف، (لا يتعلم العلم مستحييٍ) بإسكان الحاء وبياءين أخيرتهما ساكنة من