مستندًا (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(خرجت لأخبركم) بنصب الراء بأن مقدرة بعد لام التعليل وأخبر يقتضي ثلاثة مفاعيل الأول الكاف وقوله (بليلة القدر) سدّ مسدّ المفعول الثاني والثالث لأن التقدير أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية (فتلاحى فلان وفلان) في المسجد وشهر رمضان اللذين هما محلان لذكر الله لا للغو (فرفعت) أي رفع بيانها أو عملها من قلبي بمعنى نسيتها كما وقع التصريح به في رواية مسلم، وقيل رفعت بركتها في تلك السنة، وقيل التاء في رفعت للملائكة لا لليلة. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها" وهذا يقتضي أن سبب الرفع النسيان لا الملاحاة.
وأجيب: باحتمال أن يكون النسيان وقع مرتين عن سببين أو أن الرؤيا في حديث أبي هريرة منامًا فيكون سبب النسيان الإيقاظ والأخرى في اليقظة، فيكون سبب النسيان الملاحاة وحاصله الحمل على التعدد.
(وعسى أن يكون) رفع تعيينها (خيرًا لكم) وجه الخيرية أن إخفاءها يستدعي قيام كل الشهر بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها. واستنبط منه الشيخ تقي الدين السبكي -رحمه الله تعالى- استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها قال: وجه الدلالة أن الله تعالى قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كله فيما قدره له ويستحب اتباعه في ذلك قال: والحكمة فيه أنها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف عند أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السلب، ومن جهة أنه لا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس، وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم تعيينها تلك السنة فهل أعلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك بتعيينها فيه احتمال وشذ قوم فقالوا: أنها رفعت أصلاً وهو غلط منهم، ولو كان كذلك لم يقل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك:
(فالتمسوها) في اطلبوا ليلة القدر (في) الليلة (التاسعة) والعشرين (و) في الليلة (السابعة) والعشرين (و) في الليلة (الخامسة) والعشرين من شهر رمضان، وقد استفيد التقدير بالعشرين والليلة من روايات أخر كما لا يخفى ولو كان المراد رفع وجودها كما زعم الروافض لم يأمرهم بالتماسها، وقد أجمع من يعتد بها على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر وقد وقع الأمر بطلبها في هذه الأحاديث في أوتار العشر الأواخر وفي السبع الأواخر وبينهما تناف وإن اتفقا على أن محلها منحصر في العشر الأواخر، والأول وهو انحصارها في أوتار العشر الأخير قول حكاه القاضي عياض وغيره. قال
الحنابلة: وتطلب في ليالي العشر الأخير وليالي الوتر آكد. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين الخ ويكون باعتبار الباقي لقوله عليه الصلاة والسلام: لتاسعة تبقى فإن كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الإشفاع فليلة الثانية تاسعة تبقى وليلة الرابعة سابعة تبقى كما فسره أبو سعيد، وإن كان الشهر ناقصًا كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي اهـ.
وأما القول بانحصارها في السبع الأواخر فلا نعرف قائلاً به وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد السابق وفيه: فوكف المسجد في مصلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة إحدى وعشرين وحديث عبد الله بن أنيس عند مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين قال: فمطرف ليلة ثلاث وعشرين، وعبارة الشافعي في الأم كما نقله البيهقي في المعرفة وتطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان قال: وكأني رأيت والله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين. وقال الحنابلة: وأرجى الأوتار ليلة سبع وعشرين قال في الإنصاف: وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب وهو من المفردات اهـ.
وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما في مسلم وفي حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعًا: ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وحكاه الشاشي من الشافعية في الحلية عن