السيد أن فاعل بالمصدر، ويردّه أن المعنى حينئذ ولله على الناس أن يحج المستطيع فيلزم إثم جميع الناس إذا تخلف المستطيع، وتعقبه في المصابيح بأنه بناه على الألف واللام لاستغراق الجنس وهو ممنوع لجواز كونها للعهد الذكري، والمراد حينئذ بالناس من جرى ذكره وهم المستطيعون وذلك لأن حج البيت مبتدأ والخبر قوله: لله على الناس والمبتدأ مقدم على الخبر رتبة وإن تأخر لفظًا، فإذا قدّمت المبتدأ وما هو من متعلقاته كان التقدير يرجح البيت المستطيعون حق ثابت لله على الناس أي هؤلاء المذكورين، ويدل عليه أنك لو أتيت بالضمير سد مسد أل ومصحوبها وهو علامة الأداة التي للعهد الذكري بل جعلها كذلك مقدم على جعلها للعموم، فقد صرح كثيرون بأنه إذا احتمل كون أل للعهد وكونها لغيره كالجنس أو العموم فإنا نحملها على العهد للقرينة المرشدة إليه. ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة ولهذه الآية وهو أحد أركان الإسلام الخمس ولا يتكرر وجوبه إلا لعارض نذر أو قضاء عارض.
روى مسلم حديث أبي هريرة خطبنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: يا رسول الله أكل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) أي أتأمرنا أن نحج كل عام؟ وهذا يدل على أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة وإلاّ لما صح الاستفهام، وإنما سكت -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى قالها ثلاثًا زجرًا له عن السؤال فإن التقدم بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهي عنه لقوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كل سنة لبينه عليه الصلاة والسلام لهم لا محالة ولا يقتصر على الأمر مطلقًا سواء سئل عنه أو لم يسأل عنه فيكون استعجالاً ضائعًا، ثم لما رأى أنه لا يزجر به ولا يقنع إلا بالجواب الصريح أجاب عنه بقوله: لو قلت نعم لوجبت كل عام حجة فأفاد به أنه لا يجيب في كل عام لما في لو من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره وأنه لم يتكرر لما فيه من الحرج والكلف الشاقة قاله البيضاوي.
وتعقبه الطيبي بأن الاستدلال بسؤال الرجل على أن الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة ضعيف لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه ولهذا زجره وقال: ذروني ما تركتكم يعم الخطاب يعني اقتصروا على ما أمرتكم به على قدر استطاعتكم، فقد علم أن الرجل لو لم يسأل لم يفد غير المرة وأن التكرار يفتقر إلى دليل خارجي انتهى.
ثم إن الحج مطلقًا إما فرض عين أو فرض كفاية أو تطوع واستشكل تصويره. وأجيب: بأنه يتصور في العبيد والصبيان لأن الفرضين لا يتوجهان إليهما وبأن في حج من ليس عليه فرض عين جهتين جهة تطوع من حيث أنه ليس عليه فرض عين وجهة فرض كفاية من حيث إحياء الكعبة.
قال الزركشي: وفيه التزام السؤال إذ لم يخلص لنا حج تطوع على حدته وفي الأول التزامه بالنسبة للمكلفين ثم إنه لا يبعد وقوعه من غيرهم فرضًا ويسقط به فرض الكفاية عن المكلفين كما في الجهاد وصلاة الجنازة انتهى.
واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ فعند الشافعية على التراخي لأن الحج فرض سنة خمس كما جزم به الرافعي في كتاب الحج أو سنة ست كما صححه في السير، وتبعه عليه في الروضة ونقله في شرح المهذّب عن الأصحاب وعليه الجمهور لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده ما أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عن علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي أنهم قرؤوا وأقيموا الحج، وقيل المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع وهو يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك وقد أخره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى سنة عشر من غير مانع فدلّ على التراخي، وإليه ذهب اللخمي وصاحب المقدمات والتلمساني من المالكية، وحكى ابن القصار عن مالك أنه على الفور، وتابعه العراقيون، وشهره صاحب الذخيرة وصاحب العدة وابن بزيزة، لكن القول بالتراخي مقيد بعدم