ثم قال رحمه الله: [وأعربوا مضارعاً إن عريا من نون توكيد مباشر ومن نون إناث ليرعن من فتن] أعربوا: الواو هنا ضمير تعود على العرب أو تعود على النحويين، إن كانت خبراً فإنها تعود على العرب، وإن كانت حكماً فإنها تعود على النحويين.
إن كان المعنى: وحكموا بإعراب المضارع، فالضمير يعود على النحويين.
وإن كان المعنى: تكلموا بالمضارع معرباً، فعلى العرب.
والعرب هم الأصل، وهم الذين أعربوا المضارع لكن بشرط: (إن عري إلى آخره).
وهنا نسأل: هل كلام المؤلف يفيد أن الأصل في المضارع الإعراب أو أن الأصل فيه البناء؟ يقولون: كل ما احتاج إلى قيد فالأصل العدم، إذاً: الأصل في المضارع الإعراب؛ لأن الشرط هنا عدمي لا وجودي.
نقول الآن: المضارع يعرب بشرط أن لا تتصل به نون التوكيد ولا نون الإناث.
فإذا وجدنا مضارعاً لم تتصل به نون التوكيد ولا نون الإناث فإنه يعرب، يعني يتغير آخره باختلاف العوامل الداخلة عليه.
مثاله: يقوم.
تقول: يقوم الرجل، لم يقم الرجل.
قوله: [نون توكيد مباشر] كلمة (مباشر) بالنسبة لعبارتنا التي قلنا: إذا اتصل به نون التوكيد لا نحتاج إليها كما سيتبين من الشرح.
فقال: (من توكيد مباشر).
احترازاً من نون التوكيد غير المباشر، فإذا لم يعر عن توكيد مباشر فإنه يكون مبنياً، بمعنى أنه إذا اتصلت به نون التوكيد فإنه يكون مبنياً.
مثال ذلك أن تقول: يقوم زيد، فهو معرب؛ لأنه لم تتصل به نون توكيد ولا نون إناث.
ثم تقول: ليقومَنَّ زيد.
فاتصل به نون توكيد مباشر، وإذا كان الفعل المضارع مسنداً لمفرد وفيه نون توكيد فهو مباشر على كل حال.
قلنا: يقوم زيد، مرفوع، وهنا قلنا: ليقومَنَّ زيد، فليس مرفوعاً ولا منصوباً، لكنه مبني على الفتحة، أي أنه إذا اتصل به نون التوكيد صار مبنياً على الفتحة.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].
والنون في قوله: (ليسجننَّ) يسمونها الثقيلة (وليكوناً) يسمونها الخفيفة، سميت الأولى ثقيلة لأنها مشددة، كل حرف مشدد فهو ثقيل، وسميت الثانية خفيفة لأنها ساكنة غير مشددة.
إذاً: إذا اتصلت نون التوكيد بالفعل المضارع صار مبنياً على الفتح.
وتقول: إلا تفعلن يا زيد.
بفتح اللام مع أنه دخل عليه إن الشرطية؛ وذلك لأنه مبني لا يتغير بالعوامل.
وتقول: يعجبني أن تفعلن كذا -إذا صح التعبير- لأنه مبني على الفتح، وتقول: لن تفعلن كذا.
فتبنيه على الفتح.
الخلاصة: يعرب المضارع إلا في حالين: الحال الأولى: إذا اتصلت به نون التوكيد المباشرة، وكلمة (المباشرة) لا يضر حذفها؛ لأنه إذا قلنا اتصلت به يكفي لكن هذه زيادة إيضاح.
الحال الثانية: إذا اتصلت به نون الإناث، والمراد نون المؤنث، ولم يقل (نون النسوة) لأن من المؤنث ما هو نسوة كبنات آدم ومنه ما ليس بنسوة كالغنم.
مثاله: (كيرعن من فتن) أي: النسوة يرعن من فتن بهن، يعني يروعن من فتن بهن؛ لأنه يخاف منهن ماذا يفعلن به؟ يأخذن قلبه حتى يمشي وراءهن، وهذا هو الواقع نسأل الله العافية، أعني أن من فتن بالنساء أخذ قلبه وصار يمشي كالبهيمة، ولهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من فتنة النساء فقال: (واتقوا النساء) وأخبر أن عامة فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
وابن مالك يقول: (يرعن من فتن) تحذيراً من الافتتان بهن.
والمؤلف لم يمثل لنون التوكيد إنما مثل لنون الإناث قال: (يرعن من فتن).
وأصل يرعن يروع بالواو، لكن لما بني الفعل على السكون لاتصاله بنون النسوة التقى ساكنان الواو والعين، وإذا التقى ساكنان وكان الأول حرف لين وجب حذفه، وإلى هذه القاعدة يشير ابن مالك في الكافية بقوله: إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحق وحروف اللين ثلاثة: الواو، والألف، والياء.
والأعراب: يرعن: (يرع) فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث في محل رفع.
والنون في يرعن ضمير متصل فاعل مبني على الفتح في محل رفع.
(من): مفعول به مبني على السكون في محل نصب.
فتن: فعل ماض.
والجملة صلة الموصول.
نحن قلنا في نون التوكيد: لابد أن يكون مباشر احترازاً مما إذا لم يكن مباشراً.
ومتى لا يكون مباشراً؟ إذا أسند الفعل إلى واو الجماعة، أو ألف الاثنين، أو ياء المخاطبة، ففي هذه الحال يعرب ولا يبنى.
قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} [الأعراف:6].
فالفعل (نسألن) مبني، و (تُسألُن) معرب؟ لأن (نسألن) النون فيه مباشرة، و (تسألن) النون غير مباشرة، لأن أصل تسألن (تسألوننٌ) فعندنا ثلاث نونات.
يقول النحويون في تعليلهم الذي قد يكون عليلاً: لا تجتمع ثلاثة حروف من نوع واحد، (تسألوننَّ) فيجب أن نحذف أحدها لتوالي الأمثال، فنحذف النون الأولى لتوالي الأمثال.
والأمثال هي أن النون مثل النون، فعندنا الآن ثلاثة أمثال، النون الأولى والنون المشددة عن ثنتين فتحذف النون الأولى وهي ملاصقة للفعل لأن أصله: (تسألون)، فهي ألصق بالفعل، وتبقى نون التوكيد لأنها جاءت لمعنى مقصود وهو التوكيد، فهي أحق بالبقاء، أما نون الرفع فإنها تحذف كثيراً، كما إذا دخل ناصب على الفعل وإذا دخل جازم.
جاءت نون التوكيد مشددة، والحرف المشدد أوله ساكن، فجاءت مع الواو الساكنة، فحصل خصومة ثانية بين الواو والنون.
قالت الواو للنون: أنت طارئة فانقلعي أو على الأقل ينقلع الحرف الأول منك، ودعيني أبقى في مكاني ويكون فعلي (تُسْأَلوْنَ) إذا حذفت النون الساكنة الأولى من النون المشددة، فتبقى نون مفتوحة مخففة، فتقول نون التوكيد لواو الجمع: إذا حذفت أول جزء مني وهو نصفي الساكن فات المقصود من التوكيد وصار الفعل غير مؤكد ولذا لابد أن أبقى.
وقالت: ثم إني أحتج عليك بقول ابن مالك: إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحق وأنت لين فاذهبي، فتذهب الواو، ويكون الفعل (تُسألُنَّ).
نحن جعلناها كأنها قصة لأجل أن نقربها لأفهامكم.
نقول: أصل (تسألُنَّ) (تُسألونَنَّ) فحذفت النون الأولى لتوالي الأمثال وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وصارت الجملة تسألن.
والإعراب: (تسألن) فعل مضارع مرفوع بتقدير النون المحذوفة لتوالي الأمثال.
والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين نائب فاعل.
وقوله: فلنسألن: نسأل فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد المباشرة.
والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره: نحن، والنون للتوكيد.
إذا قلت: لا تكسلن عن طلب العلم.
لا: ناهية جازمة.
تكسلن: تكسل: فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا الناهية، والنون للتوكيد.
فانظر الآن كيف لم يتغير الفعل لا حين كان مرفوعاً ولا حين كان مجزوماً، لأنه مبني على الفتح والمبني لا يتغير باختلاف العوامل.