قال المصنف رحمه الله تعالى: [بعد إذا فجاءة أو قسم لا لام بعده بوجهين نمي مع تلو فا الجزا وذا يطرد في نحو خير القول إني أحمد] هذا قسم ثالث: وهو أنه يجوز في همزة إن الفتح والكسر، بمعنى: أنك إذا كسرت لا تغلط، وإذا فتحت لا تغلط، وقد ذكر المصنف في هذين البيتين مواضع جواز الفتح والكسر: الأول: إذا وقعت بعد إذا الفجائية فإنه يجوز فيها الكسر ويجوز فيها الفتح، وإذا الفجائية: هي الدالة على مفاجأة ما بعدها لما قبلها، أي: أن ما بعدها أتى مفاجأة، كقولك: (حضرت فإذا الأسد) أي: ففاجأني الأسد، فإذا جاءت إن بعد إذا الفجائية جاز فيها وجهان: الكسر على أنها جملة استئنافية، بمعنى: أنها جملة مستقلة لا علاقة لها بما سبق، والفتح على أنها جملة مصدرية تؤكد ما بعدها بمصدر.
مثاله: قول الشاعر: وكنت أُرى زيداً كما قيل سيداً إذا أنه عبد القفا واللهازم أو: وكنت أَرى زيداً، يجوز فيها الوجهان.
ومعنى البيت: كنت أرى زيداً سيداً كما قيل فيه -وعلى ضم همزة أُرى أي: أظنه- ولكن خاب ظني فيه إذا أنه عبد القفا واللهازم، أي: فاجأني الأمر فوجدت أن الرجل عبد القفا واللهازم.
فهنا همزة (أنه) يجوز فيها وجهان: الفتح على أنها مؤولة بمصدر والخبر محذوف، أي: إذا عبوديته حاصلة؛ مثلاً.
ويجوز الكسر على أنها جملة استئنافية، وحينئذ لا حاجة إلى التقدير؛ لأن الجملة الاستئنافية لا تؤول فيها (إن) بمصدر، فلا تحتاج إلى مبتدأ ولا إلى خبر، والجملة (إنه عبد القفا واللهازم) تامة، لا تحتاج إلى تقدير شيء محذوف.
إذاً: نقول: إذا وقعت (إن) بعد إذا الفجائية فلك في همزتها وجهان: الأول: الفتح على أنها تسد مسد المصدر، ويجب في هذه الحال أن يقدر الخبر محذوفاً.
والثاني: الكسر على أنها جملة مستأنفة، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير خبر؛ لأن الجملة تامة.
الثاني: قال: (أو قسم لا لام بعده).
إذا وقعت في قسم ليس بعده لام فإنه يجوز فيها الوجهان، لكن هذا إذا ذكر فعل القسم، مثل: حلفت بالله إنك فاهم، فيجوز أن نقول: حلفت بالله أنك فاهم، وحلفت بالله إنك فاهم، فعلى الكسر تكون جملة استئنافية، وعلى الفتح تكون مؤولة بمصدر والخبر لابد أن يكون محذوفاً.
أو نقول: لا حاجة للخبر؛ لأننا نقدرها مجرورة بحرف الجر المحذوف؛ لأن حرف الجر يطرد حذفه مع أنْ وأنَّ، قال الشاعر: أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي فيجوز في (أن) الفتح ويجوز الكسر.
فعلى الكسر نقول: إن الجملة مستأنفة، أي: تحلفي، إني أبو ذيالك الصبي.
وعلى الفتح نقول: الجملة في موضع الاسم المفرد الذي حذف منه حرف الجر، والتقدير: أو تحلفي بربك العلي بأني أبو ذيالك الصبي؛ لأن حذف حرف الجر مع أنَّ وأنْ يطرد، كما ذكر ابن مالك في الألفية.
إذاً: يجوز في (إن) إذا وقعت جواباً لقسم ذكر فيه الفعل وجهان: الوجه الأول: فتح الهمزة.
والثاني: كسرها.
فعلى الكسر تكون الجملة استئنافية، وعلى الفتح تكون الجملة في محل نصب بنزع الخافض، ويقدر الخافض مناسباً للمقام.
فإن وجدت اللام في هذه الجملة تعين الكسر، مثل قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة:56]، فهنا يتعين الكسر لوجود اللام، وإذا وجدت اللام صار الفعل معلقاً بها، وقد سبق أن العرب يكسرون من بعد الفعل المعلق باللام.
الموضع الثالث: قال: (مع تلو فا الجزا) أي: إذا وقعت أن بعد الفاء الرابطة للجواب فإنه يجوز فيها الوجهان: الكسر والفتح، فعلى الكسر تكون جملة استئنافية، وعلى الفتح تكون جملة مؤولة بمصدر ويكون الخبر محذوفاً، مثل قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ} [الأنعام:54]، فهنا (أن) وقعت في جواب الشرط المقرون بالفاء، فيجوز في همزتها الفتح والكسر: (فأنه) و (فإنه).
ونأتي بمثال من عندنا لنتمكن من التصرف فيه: إذا زارني زيدٌ فإنه صادق في المودة.
يجوز: فأنه صادق، ويجوز: فإنه صادق، فعلى الفتح نقول: الفاء رابطة للجواب، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر أي: فصدقه، والخبر على هذا محذوف والتقدير: فصدقه ثابت.
أما إذا جعلناها مكسورة فنقول: الفاء رابطة للجواب، وإن: حرف توكيد ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، والهاء اسمها، وصادق خبرها، ولا نحتاج إلى تقدير.
الموضع الرابع: قال: (وذا يطرد في نحو خير القول إني أحمد).
ذا: المشار إليه جواز الفتح والكسر.
والمعنى: أنه يجوز الوجهان أيضاً في نحو هذه الجملة: (خير القول إني أحمد)، فيجوز في همزة إن الفتح على أنها في تأويل مصدر، والخبر محذوف، أي: خير القول حمد الله.
والكسر على أنها جملة استئنافية، أي: خير القول أن أقول: إني أحمد الله، فوجه الكسر أن جملة: إني أحمد الله، وقعت خبراً للمبتدأ، ولم تحتج إلى رابط؛ لأنها في معنى المبتدأ، وقد قال ابن مالك فيما سبق: وإن تكن إياه معنى اكتفى بها كنطقي الله حسبي وكفى والقاعدة في هذا: إذا وقعت إن خبراً عن قول، وخبرها قول، وفاعل القولين واحد؛ جاز الوجهان.
والكسر أشد توكيداً في كون الإنسان يحمد الله.
قوله: (بعد إذا فجاءة أو قسم).
بعد: ظرف متعلق بقوله: نمي، وبعد مضاف وإذا: مضاف إليه، وإذا مضاف وفجاءة: مضاف إليه.
أو قسم: معطوف على إذا، والمعنى: أو بعد قسم.
لا لام بعده: لا: نافية للجنس، ولام: اسمها، وبعده: الظرف متعلق بمحذوف خبر لا النافية للجنس، والجملة في موضع صفة لقسم.
بوجهين: جار ومجرور متعلق بنمي.
نمي: فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله، وهذا أحسن من قولنا: للمجهول؛ لأنه قد يكون معلوماً، ولكن أخفاه المتكلم، ولهذا فعبارة الآجرومية جيدة، حيث قال: باب ما لم يسم فاعله.
ونمي بمعنى: ذكر، أي: بعد إذا فجاءة أو قسم لا لام بعده ذكر بوجهين، أي: وجهين في همزة إن: الفتح والكسر.
قوله: (مع تلو فا الجزاء): مع: ظرف، والظاهر أنها ساكنة من أجل استقامة البيت، أما إذا لم يكن هناك ضرورة فالفتح أكثر؛ لقول ابن مالك في الألفية: ومَعَ معْ فيها قليل وهذا الظرف متعلق بمحذوف، والتقدير: وذلك مع تلو فاء الجزاء، أي: يجوز الوجهان مع إن التي تتلو فاء الجزاء.
وقوله: (وذا يطرد)، ذا: مبتدأ، وهو اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع.
يطرد: فعل مضارع، والجملة خبر ذا.
وقوله: (في نحو خير القول)، في نحو: متعلق بـ (يطرد)، وهو مضاف و (خير القول إني أحمد)، الجملة كلها مضاف إليه، والتقدير: في نحو هذا المثال.