قال المؤلف: [في النكرات أعملت كليس لا وقد تلي لات وإن ذا العملا] (في النكرات) جار ومجرور متعلق بأعملت.
(أعملت): فعل ماضي مبني للمجهول.
(كليس): الكاف حرف جر، لكنها اسم في الواقع بمعنى (مثل)، والكاف يجوز أن نستعملها اسماً كما قال ابن مالك: [شبه بكاف وبها التعليل قد يعني وزائدا لتوكيد ورد واستعمل اسماً] يعني: يكون اسماً مثل: (مثل).
وعلى كل حال يكون التقدير هنا: أعملت لا مثل ليس.
(لا) نائب فاعل، يعني: أن (لا) أعملت في النكرات كإعمال ليس، وإذا كانت (الكاف) بمعنى (مثل) صارت مفعولاً مطلقاً، أي: في محل نصب.
وقد: للتقليل؛ لأنها دخلت على الفعل المضارع.
(وتلي) فعل مضارع.
(لات) فاعل.
(وإن) معطوف على (لات).
(ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب.
(العملا) بدل من (ذا) أي: هذا العمل.
في هذا البيت ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث أدوات، وهي: لا، ولات، وإن.
لكن لا بد فيها من شروط: اشترط في عمل (لا) أن تكون في النكرات، يعني: فلا تعمل في المعارف، ومنه قول الشاعر: تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا الشاهد قوله: (فلا شيء على الأرض باقياً) فـ (شيء) نكرة، و (باقياً) نكرة، و (وزر) نكرة أيضاً، وكذلك (واقياً)، فهذا البيت جمع شاهدين: ففي الشطر الأول شاهد، وفي الشطر الثاني شاهد.
وقوله: (في النكرات) يفهم منه أنها لا تعمل في غير النكرات، بل تهمل، فلو قلت: لا زيدٌ قائماً، لا يصح؛ لأنها لا تعمل إلا في النكرات.
ومثله: لا الرجال قائمين، لا تصح.
ولكن أورد على هذا الشرط قول الشاعر: وحلت سواد القلب لا أنا باغيا سواها ولا عن حبها متراخيا وجه الاعتراض: أنها عملت في معرفه؛ لأن (أنا) ضمير.
أجابوا: بأن هذا شاذ.
وأجاب آخرون: بأن هذا قليل.
وعلى هذا فيكون إعمالها في النكرات أكثر من أعمالها في المعارف، ولكنها تعمل في المعارف على وجه قليل، ومنه أيضاً قول الشاعر: إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا والمعنى: أن الإنسان الجواد إذا لم يكن جوده خالصاً من أن يؤذي الشخص من جاد عليه، فإنه لا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً؛ لأن ماله أنفذه، ولا يحمد؛ فيكون خسراناً حساً ومعنى.
والشاهد: قوله: (فلا الحمد مكسوباً، ولا المال باقياً) حيث عملت لا في (الحمد، والمال) وهما معرفتان، لكنه قليل.
قوله: (وقد تلي لات وإن ذا العملا).
يعني: قد تأخذ (لات) و (إن) عمل ليس.
فهاتان أداتان، و (لات) هي في الحقيقة (لا)؛ لكن زيد عليها تاء التأنيث.
ولكن قد يقول قائل: تاء التأنيث تكون ساكنة فلماذا كانت هنا متحركة؟ نقول: لأنها اتصلت بحرف، وإذا اتصلت بحرف تكون مفتوحة، كما يقال: ثُمَّتَ في تأنيث (ثم).
وعلة أخرى: أن ما قبلها ألف ساكنة؛ فلزم أن تحرك بالفتح.
وعليه تقول في (لات): (لا) نافية، و (التاء) للتأنيث.
و (إن) كذلك أيضاً تعمل عمل ليس، فترفع الاسم وتنصب الخبر، ومن ذلك قول الشاعر: إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ولكن بأن يُبغى عليه فيخذلا (المرء) اسمها و (ميتاً) خبرها.
يقول: المرء لا يموت بانقضاء حياته، فالحياة ستنقضي إن عاجلاً أو آجلاً، ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا، فهذا هو الموت حقيقة؛ أن يبغي عليك باغٍ، ويخذلك قريب، والشاهد قوله: (إن المرء ميتا) أي: ما المرء ميتا بانقضاء حياته.
لكن هل هنالك فرق بين ميَّتٍ وميْتُ؟ قالوا: إن ميتَّاً من ينتظر الموت ولم يمت بعد، وميْتاً من مات، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
واستدلوا للثاني بقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، وبقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11].
وهذا في الغالب، أعني أن الميت بالتشديد لمن ينتظر الموت، والميْت بالسكون لمن وقع به الموت.
وإعراب الشاهد في البيت كما يلي: (إن) نافية تعمل عمل ليس ترفع الاسم وتنصب الخبر.
(المرء) اسمها مرفوع بها وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.
(ميتاً) خبرها منصوب بها وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره.
قال: [وما للات في سوى حين عمل وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل] هذا الشرط يختص بلات، وهو أنها لا تعمل إلا في حين.
وهل المراد بالحين الوقت أو لفظ (حين)؟ قيل: المراد لفظ (حين).
وقيل: المراد الوقت، يعني ما دل على الحين، وهذا أصح.
وإعراب هذا الشطر كما يلي: (ما) نافية.
و (للات) جار ومجرور خبر مقدم.
(في سوى) جار مجرور متعلق بعمل، و (سوى) مضاف، و (حين) مضاف إليه.
و (عمل) مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع منها مراعاة حرف الروي، وأصلها (عملٌ).
ولكن قد يقول قائل: بل علامة رفعة ضمة ظاهرة في آخره، لكنه سكن من أجل الوقف، كما تقول: قام زيدْ.
والأول أظهر؛ لأن (عمل) لو حركت ووصلت بما بعدها فقلت: وما للات في سوى حين عملٌ وحذف ذي الرفع فشا والعكس قلْ لا يستقيم؛ إذاً: فسكونها هذا ليس من أجل الوقف ولكن من أجل مراعاة الروي، فتكون مرفوعة بضمة مقدرة على آخرها منع من ظهورها مراعاة الروي.
وقال: (وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل).
حذف مبتدأ، وهو مضاف إلى (ذي)، وذي مضافة إلى (الرفع).
(فشا) فعل ماض، وفاعله مستتر جوازاً تقديره (هو)، والجملة خبر (حذف).
والمعنى: كثر حذف ذي الرفع، و (العكس) وهو حذف ذي النصب (قل).
إذاً: لات تتميز بأنها لا تعمل إلا في حين، ولا بد من حذف أحد معموليتها: إما الاسم وهو الأكثر، وإما الخبر وهو الأقل.
مثال ذلك قوله تبارك تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3].
(لا) نافية ترفع الاسم وتنصب الخبر، و (التاء) تاء التأنيث، واسمها محذوف، ولا نقول: مستتر؛ لأن (لا) حرف، والحرف لا يتحمل الضمير، والضمير اسم وهو أقوى من الحرف.
والتقدير: ولات الحين حين مناص؛ يعني: ليس ذلك الوقت حين مفر.
وقد قلنا: إن المراد بالحين الوقت وهو الأصح، واستشهد لذالك بقول الشاعر: ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم البغاة: جمع باغ.
ولات ساعة مندم: أي ليست الساعة ساعة مندم.
فنلاحظ الآن أن (لات) عملت في لفظ غير لفظ حين، لكنه يدل على الحين والوقت، فعليه يكون المراد بقوله: (في سوى حين عمل) الوقت.
وقوله: (والبغي مرتع مبتغيه وخيم)، هذا الشطر يكتب بماء الذهب، ومعناه: أن مرتع طالب البغي وخيم؛ لأن المصارع تأتي دائماً على البغاة، فما أقرب مصرع الباغي! وقول المؤلف: (العكس قل) العكس هو حذف الخبر وبقاء الاسم.
فلو قال الشاعر: ندم البغاة ولات ساعة مندم لقلنا: (الساعة) الاسم والخبر محذوف