قال ابن مالك رحمه الله: (كان وأخواتها).
تكلمنا عن المبتدأ وذكرنا أن باب الابتداء هو أول الأبواب التي يبحث فيها عن الجمل، وكل ما سبقه يبحث فيه عن المفردات.
إذاً أول بحث في الجمل هو: باب الابتداء، والمبتدأ والخبر مرفوعان، ويدخل عليهما ثلاثة أصناف من العوامل: فمن هذه العوامل ما يغير الخبر دون المبتدأ، ومنها ما يغير المبتدأ دون الخبر، ومنها ما يغيرهما جميعاً.
ويسمى هذا التغيير نسخاً، وهو معنى مطابق؛ لأن النسخ رفع الشيء، فمثلاً: كان وأخواتها إذا دخلت على المبتدأ والخبر نسخت الخبر من الرفع إلى النصب، فبدلاً من أن تقول: زيد قائم، تقول: كان زيد قائماً.
وإن وأخواتها بالعكس، تنسخ لفظ المبتدأ دون الخبر، فإذا قلت: (زيد قائم)، ثم أدخلت إن على هذه الجملة قلت: (إن زيداً قائم) فتجد زيداً تغير من الرفع إلى النصب.
وظن وأخواتها تنسخ الجزءين، فإذا قلت: زيد قائم، ثم قلت: ظننت زيداً قائماً وجدت أنها نسخت الجزءين وأن الجزءين أصبحا منصوبين بعد أن كانا مرفوعين.
وبدأ المؤلف بكان وأخواتها، لأنها لا تنسخ إلا أحد الجزءين، وقدمها على إن وأخواتها؛ لأن إن وأخواتها حروف وكان وأخواتها أفعال، والأفعال أولى بالتقديم من الحروف؛ لأنها تدل على معنى في ذاتها، بينما الحروف تدل على معنىً في غيرها.
وأيضاً كان وأخواتها، لا يتغير الجزء الأول من المبتدأ والخبر بخلاف إن وأخواتها، ومعلوم أن الذي يبقي على الجزء الأول المجاور له أولى بالتقديم من الذي يبقي على الجزء الثاني دون الجزء الأول.
وأخر ظن وأخواتها؛ لأنها تغير الجزءين جميعاً.
أما عمل كان وأخواتها فهو رفع المبتدأ ونصب الخبر، والمراد (بالأخوات) هنا النظائر التي تشبهها في العمل.
قال: [ترفع كان المبتدأ اسماً والخبر تنصبه ككان سيداً عمر] ترفع كان المبتدأ مثاله: {كان الله غفورًا رحيمًا} [النساء:96].
وإن شئت مثلت بمثال المؤلف وإن كان فيه تقديم وتأخير فتقول: كان عمر سيداً، فعمر هنا مرفوع بكان، ولو قال قائل: لماذا لا نجعله مرفوعاً بالابتداء؟ قلنا: لا يمكن أن نقول ذلك، لأنه الآن ليس مبتدأً، فلا يصح أن نقول: إنه مرفوع بالابتداء وقبله عامل.
لكن قولنا: عمر سيد، هذا ليس قبله عامل؛ فلهذا نقول: عمر مرفوع بالابتداء، وسيد: مرفوع بالخبر.
وعلى هذا فيكون المبتدأ مرفوعاً بكان؛ فعمر في (كان عمر سيداً) اسم كان مرفوع بها، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره.
وقوله: (والخبر تنصبه) يعني أن كان تنصب الخبر، وكونها تنصب الخبر واضح، لأن الخبر كان مرفوعاً فغيرته إلى النصب، ويسمى خبراً لها، فتقول: كان عمر سيداً، (سيداً) خبر كان منصوب بها وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره.
واعلم أن (كان) الداخلة على المبتدأ والخبر في باب أسماء الله وصفاته لا تدل على الزمان، وإنما فيها تأكيد اتصاف الله بهذا الوصف، فقوله تعالى: {وكان الله غفورًا رحيمًا} [النساء:96]، كان: فعل ماض لكن لا تدل على زمن مضى؛ لأنك لو قلت: إنها تدل على زمن مضى لكانت المغفرة والرحمة الآن غير موجودة، ولكنها تدل على أن هذا الشيء كائن لا محالة، فيكون فيها توكيد اتصاف الله سبحانه وتعالى بخبرها.
لكن لو قلت: كان زيد قائماً؛ فلا نقول: إن كان مسلوبة الزمان لأن من الممكن أنه كان قائماً وهو الآن قاعد.
وقوله: (كان سيداً عمر) يحتاج المؤلف إلى تقديم الخبر من أجل روي البيت، والترتيب الأصلي أن يقال: كان عمر سيداً، و (عمر) هنا ابن الخطاب رضي الله عنه، و (سيداً) من السادات وليس هو السيد المطلق؛ لأن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وسيد هذه الأمة بعده أبو بكر رضي الله عنه، وسيد الأمة بعد أبي بكر عمر، وسيدها بعد عمر عثمان، وسيدها بعد عثمان علي بن أبي طالب، وسيدها بعد علي الحسن بن علي بن أبي طالب؛ لأنه رضي الله عنه أحق بالخلافة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين).
الشاهد أن عمر سيد من السادات ونعم السيد عمر رضي الله عنه فإن الله تعالى فتح على يديه فتوحات كثيرةً عظيمة، وانتشر في عهده العدل، وصلحت الأمة حتى كان عهده مضرب المثل في العدل والاطمئنان والحزم وعدم الغفلة، فلذلك استحق أن يكون سيداً رضي الله عنه.
أفادنا المؤلف رحمه الله أن عمل كان هو رفع المبتدأ اسماً لها ونصب الخبر خبراً لها، وأفادنا أن الضمة التي كانت على المبتدأ بعد دخول كان ليست من أجل الابتداء ولكن من أجل دخول كان.
قال: (ككان ظل) هذا تركيب عجيب غريب؛ قد يقول القائل: قد ذكر أن حروف الجر لا تدخل إلا على الأسماء، وهنا دخلت الكاف على (كان) وهي فعل، فكيف المخرج؟ نقول: لأنه أريد لفظها، ومتى أريد اللفظ جاز دخول حرف الجر سواء كان المدخول عليه فعلاً، أو جملة فعلية، أو جملة اسمية.
وأما (ظل) فهي مبتدأ.
(وككان) خبر مقدم، وظل وما عطف عليه مبتدأ مؤخر.
وظل هنا بالظاء أخت الطاء وتسمى الظاء المشالة؛ لأنها شيلت بالألف، وظل بمعنى صار.
وهناك ضل بالضاد من الضلال وليست من هذا الباب، فإذا قلت: ضل الرجل تائهاً، فالرجل: فاعل، وتائهاً: حال، ولا نقول: إنه من باب أخوات كان، ولا تدل على ما تدل عليه ظل؛ لأن ظل تدل على الصيرورة وعلى نوع من الاستمرار، ومثالها قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل:58]، أي: صار واستمر إلى حين ما مسوداً.
و (بات) من البيتوتة؛ وهي النوم في الليل، هذا هو الأصل، وتطلق على مجرد البيتوتة فتقول: بات الرجل نائماً، وتقول: بات الرجل ساهراً، وكلاهما صحيح، وبات ترفع الاسم وتنصب الخبر.
و (أضحى) من الضحى: وهو ارتفاع النهار، فإذا قلت: أضحى الرجل صائماً؛ فالمعنى صار صائماً، لكنك خصصته في زمن معين وهو الضحى.
و (أمسى) مثلها أيضاً، فتقول: أمسى الرجل جائعاً، يعني: صار في المساء جائعاً.
و (صار) من الصيرورة لا من الصير؛ لأن صار تأتي من الصير، وتأتي من الصيرورة يعني: الانقلاب من حال إلى حال، والمراد هنا الصيرورة، فتقول: صار الخزف إبريقاً، وصار الصديق عدواً، وصار العدو صديقاً، وصار الراكب راجلاً، وصار الراجل راكباً، وهلم جرا.
وأما من الصير الذي بمعنى الضم فليست من هذا الباب، ومن ذلك قوله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260]، أي: ضمهن إليك.
و (ليس) فعل يدل على النفي، وقد قال بعض النحويين: إنها ليست فعلاً بل هي حرف؛ لأنها تشبه الحرف في عدم التصرف؛ فتكون حرفاً.
لكن الصواب أنها فعل ولا شك، والدليل قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [النساء:18]، فدخلت عليها تاء التأنيث، وهذا يدل على أنها فعل ماضٍ.
(وزال) التي مضارعها يزال -لا التي مضارعها يزول، ولا التي مضارعها يزيل- تعمل عمل كان، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، فيزالون: فعل ماض ناقص ترفع الاسم وتنصب الخبر، واسمها هنا ضمير مبني على السكون في محل رفع، و (مختلفين) خبرها.
أما زال التي مضارعها (يزول) فإنها لا تعمل عمل كان بل هي تامة، تقول: زالت الشمس، والمضارع: تزول الشمس.
كذلك زال التي مضارعها (يزيل) فإنها ليست من أخوات كان، وهي بمعنى تميز، تقول: زال مالك عن ماله، يعني: ميزه.
و (برح) أصل برح مأخوذة من البراح وهو السعة، لكنها تفيد الاستمرار إذا كانت من أخوات كان.
و (فتئ) بمعنى عمل هذا الشيء وما أشبه ذلك، لكنها تكون للاستمرار.
(انفك) يعني: تخلص من الشيء، لكنها إذا كانت من أخوات كان لا تكون بهذا المعنى كما سيأتي أيضاً؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [وهذي الأربعة لشبه نفي أو لنفي متبعه] فقوله: (هذي) اسم الإشارة يعود إلى أقرب مذكور، وهي: زال، وبرح، وفتئ، وأنفك.
فهذه الأربعة لا تكون من أخوات كان إلا إذا اقترنت بنفي، أو شبه نفي، وهو النهي، ولا فرق بين أن يكون النفي بما أو لا أو غير أو ما أشبه ذلك.
فالمهم أن تكون مقترنة بما يفيد النفي أو شبهه.
قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، فهنا سبقت بحرف النفي لا.
كذلك أيضاً قال تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} [يوسف:85]، فالنفي هنا محذوف، وأصلها تالله لا تفتأ تذكر يوسف؛ يعني لا تزال تذكر يوسف حتى تكون حرضاً.
لكن النفي يحذف من (تفتأ) إذا سبقها قسم، وكانت فعلاً مضارعاً، وأداة النفي لا، فإذا تمت الثلاثة فإنه يحذف النفي.
وبعضهم نظم هذا فقال: ويحذف ناف مع شروط ثلاثة إذا كان لا قبل المضارع في القسم وهذه الشروط متحققة في الآية: فحرف النفي لا، وقبلها قسم، والفعل مضارع.
وبرح: قال الله في قصة موسى والخضر: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، أي: لا أبرح سائراً، فالخبر محذوف.
والرابع انفك، تقول: ما انفك البرد شديداً يعني: لم يزل البرد شديداً.
قال المؤلف: (وهذي الأربعة لشبه نفي أو نفي متبعة) والسبب في تقديم المؤلف شبه النفي على النفي مع أن الأصل أن المشبه به أقوى من المشبه؛ قيل: لضرورة النظم وهذا هو الظاهر.
وبعض المحشين يقول: قدم شبه النفي جبراً لنقصه؛ يعني أن شبه النفي أنقص من النفي فقدمه جبراً لنقصه.
لكن النظم ربما يقول قائل: يمكن أن ينجبر البيت بغير هذا، فيقول مثلاً: وهذه الأربعة لنفي أو لشبه نفي متبعة.
ويقال لهذه الأفعال الأربعة: أفعال الاستمرار؛ لأنها تدل عليه.
ثم قال: [ومثل كان دام مسبوقاً بما كأعط ما دمت مصيباً درهماً] دام مثل كان، وهو