مسوغات الابتداء بالنكرة

ثم قال: [ولا يجوز الابتدا بالنكره].

من أحكام المبتدأ أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة؛ لأن المبتدأ محكوم عليه، ولا بد أن يكون المحكوم عليه معروفاً، والنكرة غير معروفة، فكيف يحكم على غير معروف، فلا تقل: رجل في البيت، ورجل قائم.

قال: [ما لم تفد كعند زيد نمره] يعني: ما لم تفد النكرة، فإن أفادت بعموم أو خصوص أو غير ذلك فإنه يجوز، مثاله: عند زيد نمره: عند زيد: ظرف خبر مقدم.

نمرة: مبتدأ مؤخر.

والنمرة نوع من اللباس، وهي نكرة ومع ذلك جاز الابتداء بها.

فنأخذ من هذا المثال قاعدة وهي: أنه يجوز الابتداء بالنكرة إذا وقعت متأخرة، مثل: عند زيد نمرة، وفي البيت رجل.

قال: [وهل فتىً فيكم].

المبتدأ: فتىً، وهو في موضعه مقدم، والخبر (فيكم) وهو في موضعه مؤخر، فجاز الابتداء به وهو نكرة لأنه سبق بأداة استفهام.

إذاً نأخذ قاعدة وهي: أنه إذا سبق النكرة أداة استفهام جاز الابتداء بها؛ لأن الاستفهام أدخل على النكرة العموم، والعموم معنىً زائد على الذات.

فقوله: (فتىً) يدل على الفتوة، والاستفهام (هل فتىً؟) عموم، لأنه يسأله: أي فتى؛ هل فتى فيكم؟ والعموم معنىً زائدٌ على الذات، يعني على المعنى المفهوم من كلمة (فتىً) فجاز الابتداء؛ لأنه أفاد معنىً وهو العموم.

قال: [فما خل لنا].

خل: نكرة، وابن مالك ضرب هذا المثال على لغة بني تميم؛ لأنه لو أراد لغة الحجازيين لصارت (خل) اسماً لما الحجازية التي تعمل عمل ليس، فلو أراد المؤلف أن يعمل (ما) هنا لم تكن من هذا الباب، بل تكون من باب النواسخ، لكنه أراد بهذا المثال لغة بني تميم.

يقول الشاعر: ومهفهف الأعطاف قلت له انكسر فأجاب ما قتل المحب حرام فرفع (قتل) فدل على أن (ما) مهملة وهذه لغة بني تميم.

وابن مالك الآن في قوله: (ما خل لنا) تميمي.

و (الخل) المحب، والخلة أعلى أنواع المحبة، وقد شرحها الشاعر بأكمل شرح فقال يخاطب معشوقته: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا فمسلك الروح يعني: مجاري الدم التي تصل إلى أعماق القلب؛ ولهذا ذكر ابن القيم في كتاب روضة المحبين الذي شكك بعض الناس بنسبته لـ ابن القيم: أن المحبة عشرة أنواع أعلاها الخلة.

ولهذا لم تثبت فيما نعلم إلا للخليلين محمد وإبراهيم، بخلاف المحبة، فهي ثابتة للمؤمنين، للمقسطين، للمتقين وغير ذلك.

وبهذا فالذين يعظمون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، نقول لهم: ويلكم! قد انتقصتم مرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمحمد خليل الله كما أن إبراهيم خليل الله؛ ولهذا لم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أحداً خليلاً له، واتخذ حبيباً له عائشة رضي الله عنها، ويحب أباها ويحب أسامة وغيرهم، لكن لم يتخذ خليلاً بل جعل ربه سبحانه وتعالى خليلاً، قال: (لو كنت متخذاًَ من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا).

وقول ابن مالك: (فما خل لنا) هل أراد معناها وأنه جعل أعلى المحبة لله، ويكون المعنى: فما خل لنا سوى ربنا، أم أنه مثال ضرب فقط؟

صلى الله عليه وسلم الأول؛ لأن بإمكانه أن يبدل الكلمة بكلمة أخرى لا يختل بها الوزن، فلو قال: (فما حب لنا)، لاستقام الوزن.

لكن يبدو -والله أعلم- أنه أراد أن يقول: لا خل لنا إلا ربنا، أي فما خل لنا من الناس.

الشاهد: أن (خل) نكرة وابتدئ بها؛ لأنها سبقت بحرف نفي، وعلى هذا فنقول: إذا سبقت النكرة بحرف نفي جاز الابتداء بها؛ لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم، فالعموم معنىً زائد على الذات.

قوله: [ورجل من الكرام عندنا].

(رجل) نكرة لكنها وصفت بقوله: (من الكرام)، قوله: (عندنا) هي الخبر، فلما وصفت تخصصت، فاستفدنا معنىً زائداً على مجرد الذات.

فلما قلنا: (رجل من الكرام) خرج به الرجل الذي من اللئام، أو الرجل الذي ليس بلئيم وكريم.

ويقال: إن ابن مالك أنشد هذا البيت وكان عنده النووي رحمه الله، فقال: ورجل من الكرام عندنا يعني: به النووي.

وسواء صح هذا أم لم يصح فالمهم أن هذا المثال وقعت فيه النكرة مبتدأً؛ لأنها وصفت فتخصصت بالوصف فاستفدنا معنى ً زائداً على مجرد الذات.

قال: [رغبة في الخير خير].

رغبة: مبتدأ، وخبره: خير، فلو قلت: رغبة خير لم يصح الكلام؛ لأننا لا ندري أي رغبة يريد، فإذا قال: (رغبة في الخير) خصصها، بأنها رغبة معينة.

مثال آخر: ضارب رجلاً قائم، فهذا يصح؛ لأن النكرة عملت فإذا عملت فقد خصصها عملها فيجوز أن يبتدأ بها.

قال: [وعمل بر يزيد].

(عمل): مبتدأ، وجملة (يزين) خبر المبتدأ، (وعمل) هنا نكرة وإن كان مضافاً؛ لأن المضاف إلى النكرة لا يتعرف، لكنها خصت بأنه ليس كل عمل هو المراد، بل المراد عمل البر، وبهذا أفادت.

فإن قال قائل: أليست الإضافة فيها عمل المضاف في المضاف إليه؟ فالجواب: بلى.

فيقول: فهل يقتضي من كلام ابن مالك أن يكون المثال مكرراً مع ما قبله؛ لأن الذي قبله (رغبة في الخير)، هذا عمل، (عمل بر يزين)، هذا عمل أيضاً.

فيقال: أولاً: أن العلماء مختلفون في المضاف إليه، هل الذي عمل فيه المضاف أو الذي عمل فيه الحرف المقدر بالإضافة؛ لأن الإضافة تكون على تقدير (في) وعلى تقدير (من) فإن أضيف الشيء إلى نوع فالتقدير (من)، وإن أضيف إلى ظرفٍ فالتقدير (في)، وما عدا ذلك فالتقدير لام.

فإذا قلت: خاتم فضة، فالتقدير (من) لأنها نوع.

وفي قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33] التقدير (في)؛ لأنه أضيف إلى زمن، وما عدى ذلك فاللام.

فمن العلماء من يقول: إن العامل في المضاف إليه هو الحرف المقدر.

وإذا قلنا بالقول الآخر: إن العامل في المضاف إليه هو المضاف؛ فإن عمل المضاف ليس كعمل المقطوع عن الإضافة في قوله: (ورغبة في الخير)؛ لأن (رغبة) عملت في قوله: (في الخير) عمل العامل الناصب.

قال: (وليقس ما لم يقل) وليقس، اللام هنا للأمر، فكأنه قال: وقس ما لم أقل على ما قلت.

والعلة الجامعة التي يمكن أن نلحق بها الفرع بالأصل الإفادة؛ لأنه قال: (ما لم تفد)، فإذا كان أعطانا علة وهي الفائدة، نقول: كل ما حصلت به الفائدة فإنه يصح أن يقع مبتدأ، وفي هذا إثبات القياس في علم النحو وهو دليل من الأدلة النحوية.

وقوله: (ما لم يقل) أي: ما لم أقله من المسوغات، مثل: سلام على المرسلين، فسلام: مبتدأ، وعلى المرسلين: خبره، مع أن سلام نكرة، لكنه مفيد؛ لكون كلمة (سلام) أفادت الدعاء.

والمسوغات أوصلها بعضهم إلى ثلاثين مسوغاً، لكن كلها تدخل تحت قوله: (ما لم تفد).

وابن هشام قال: إن عم أو خص، فجعل مناط الحكم العموم والخصوص، لكن كلام ابن هشام لا يخرج عن كلام ابن مالك؛ لأنه لا تمكن الفائدة إلا بالعموم أو الخصوص.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015