صَحِيحًا لَكَانَ لَهُ مِنَ الظُّهُورِ وَالشِّيَاعِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، وَلَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَهُ بَيَانًا عَامًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: " «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " فَلَوْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ الْحُكْمِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، كَمَا بَيَّنَ حُكْمَ الْأُضْحِيَةِ لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ عَنِ الْأُضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ، فَقَالَ: " «يُجْزِئُ عَنْكَ وَلَا يُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» " فَلَوْ كَانَ الْفَسْخُ خَاصًّا لَهُمْ لَقَالَ: " «إِذَا طُفْتُمْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَحِلُّوا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِكُمْ» " وَلَمْ يُؤَخِّرْ بَيَانَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ؛ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ بِلَالٌ كَانَ التَّلْبِيسُ وَاقِعًا. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِسُرَاقَةَ لَمَّا سَأَلَهُ: " «أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ» ". فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مَعْلُومًا بِنَفْسِ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا أَجَابَ السَّائِلَ تَوْكِيدًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُقْتَضِيَةً لِعُمُومِ الْحُكْمِ وَثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ عَارَضَ أَحْمَدُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَكَمَ بِشُذُوذِهِ لَمَّا انْفَرَدَ بِمَا يُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الْمَشَاهِيرَ، وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَدَّثُوا بِتِلْكَ إِنَّمَا ذَكَرُوهَا لِتَعْلِيمِ السُّنَّةِ، وَبَيَانِهَا، وَاتِّبَاعِهَا، وَالْأَخْذِ بِهَا، لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ مُجَرَّدَ الْقِصَصِ. وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْوُوهَا رِوَايَةً مُرْسَلَةً حَتَّى يُبَيِّنُوا اخْتِصَاصَهُمْ بِهَا، فَكَيْفَ إِذَا ذَكَرُوهَا لِتَعْلِيمِ السُّنَّةِ؟! وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ مَاضِيَةٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا يُرَدُّ هَذَا بِحَدِيثِ مَنْ لَمْ يُخْبِرْ قُوَّةَ ضَبْطِهِ وَتَيَقُّظِهِ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015