يعني المؤلف رحمه الله بذلك أن الشيء يدرك بأمرين: حده ودليله؛ الحد في قوله: (في الحد) ، والدليل في قوله: (والبرهان) يعني الدليل، فكل المعلومات محصورة في الحد والدليل.

والحد يكون به التصور، والدليل يكون به النفي أو الإثبات، والأسبق الحد، ولهذا يقال الحكم على الشيء فرع عن تصوره تصور أولاً ثم احكم بالإثبات أو بالنفي، وهذا حق لأنني مثلاً لا يمكن أن أقول إن الأمر بالمعروف واجب حتى أعرف ما هو المعروف وما معنى الأمر، فحينئذٍ أقول هو واجب، أما أن يقال لي: الأمر بالمعروف واجب، وأنا لا اعرف معنى الأمر ولا أعرف معنى المعروف، فهذا سبق للشيء قبل أوانه.

وكثير من العلماء - ولا سيما الفقهاء - يحدون الشيء بحكمه، وعلى هذا فيتضمن الحكم الحد، لكن هذا عند المناطقة ممنوع، كما قيل:

وعندهم من جملة المردود أن تدخل الأحكام في الحدود

وقوله: (مدارك العلوم ... محصورة في الحد والبرهان) هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ أن جميع الأشياء محصورة بالحد والبرهان، وهذا في الأمور المعقولة قد يكون مقبولاً، أي أن نحد أولاً ثم نحكم ثانياً، لكن هناك أشياء لا تتوقف على العقل، بل تعرف بالحس، فإذا قلنا: إن مدارك العلوم محصورة في الحد والبرهان خرج عن هذا جميع المحسوسات، وهذا لاشك أنه نقص، لأننا نعلم بالحس أحياناً أكثر مما نعلم بالعقل، والحس يشترك في العلم به عامة الناس وخاصة الناس، والعقل لا يشترك فيه إلا من كان ذا عقل وذكاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015