الثاني: أنه قد يظن ما ليس بجرح جرحا، وأما كونه صادقا متحريا للصدق لا يكذب فهذا لا يعرف بشيء واحد حتى يخبر به وإنما يعرف ذلك من خلقه وعادته بطول المباشرة له والخبرة له، ثم إذا استفاض ذلك عند عامة من يعرفه كان ذلك طريقا للعلم لمن لم يباشره كما يعرف الإنسان عدل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وظلم الحجاج.
ولهذا قال الفقهاء: إن العدالة والفسق يثبتان بالاستفاضة وقالوا في الجرح المفسر يجرحه بما رآه أو سمعه أو استفاض عنه، وصدق الإنسان في العادة مستلزم لخصال البر كما أن كذبه مستلزم لخصال الفجور كما ثبت في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا» (?).
وكما أن الخبر المتواتر يعلم لكونه خبر من يمتنع في العادة اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، والخبر المنكر المكذب يعلم لكونه لم يخبر به من يمتنع في العادة اتفاقهم على الكتمان فخلق الشخص وعادته في الصدق والكذب يمتنع في العادة أن يخفى على الناس فلا يوجد أحد يظهر تحري الصدق وهو يكذب إذا أراد إلا ولا بد أن يتبين كذبه، فإن الإنسان حيوان ناطق فالكلام له وصف لازم ذاتي لا يفارقه، والكلام إما خبر وإما إنشاء والخبر أكثر من الإنشاء وأصل له كما أن العلم أعم من الإرادة وأصل لها والمعلوم أعظم من المراد، فالعلم يتناول الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع وما كان وما سيكون وما يختاره العالم وما لا يختاره.
وإما الإرادة فتختص ببعض الأمور دون بعض والخبر يطابق العلم فكل ما يعلم يمكن الخبر به، والإنشاء يطابق الإرادة، فإن الأمر إما محبوب يؤمر به أو مكروه ينهى عنه، وأما ما ليس بمحبوب ولا مكروه فلا يؤمر به ولا ينهى عنه وإذا كان كذلك فالإنسان إذا كان متحريا للصدق عرف ذلك منه وإذا كان يكذب أحيانا لغرض من الأغراض لجلب ما يهواه أو دفع ما يبغضه أو غير ذلك، فإن ذلك لا بد أن يعرف منه، وهذا أمر جرت به العادات كما جرت بنظائره فلا تجد أحدا بين طائفة من الطوائف طالت مباشرتهم له إلا وهم يعرفونه هل يكذب أو لا يكذب؟