وإبطال هذا القانون شأن واسع، لكن نشير إلى خمسة أوجه في رده.
الوجه الأول: أن يُقال: إن هذا القانون مبني على إمكان تعارض العقل والنقل، فإن القانون يقول: إذا تعارض العقل والنقل.
ومعلوم أن النقل حسب القانون يعد دليلاً، والدليل إذا وردت عليه المعارضة من كل وجه لم يصح أن يكون دليلاً في المقام الذي وردت عليه المعارضة فيه.
وبعبارة أخرى: الدليل هو ما يستدل به على المدلول، فإذا قيل: إنه في هذا المقام ليس دليلاً حيث يقدم العقل عليه، دل على أنه ليس بدليل صحيح؛ لأن الدلائل الصحيحة في نفسها يمتنع أن تكون متعارضة.
ولا شك أن هذا القول لا يلتزم حقيقته إلا خارج عن ملة الإسلام، فإن على هذا لا يكون النقل دليلاً ولا سيما أن النقل باتفاق الطوائف لم يسكت عن ذكر أصول الدين، وذكر الأسماء والصفات، وكتاب الله سبحانه وتعالى مليء بذكر أسماء الرب وصفاته، فيلزم من هذا أن ما ذكر في الكتاب يكون معارضاً للحق الذي فرضه العقل، ولهذا قال شيخ الإسلام في نقضه لهذا القانون: (فيلزم من هذا القانون أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى؛ لأن الكتاب والسنة أتت بما يخالف الحقيقة العقلية التي يزعم هؤلاء أنها هي المعتبر في مسائل الأصول).
الوجه الثاني: أن كل دليل له جهتان، الجهة الأولى: جهة الثبوت، والجهة الثانية: جهة الدلالة، ومن أراد تقديم دليل على آخر فلا بد أن ينظر في ثبوته وفي دلالته، فيقدم الأقوى ثبوتاً والأقوى دلالة، فيقال: إن الدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة يقدم على ما هو ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، ومعلوم أن هذا تقديم صحيح عند سائر العقلاء، فيعاد السبر والتقسيم من وجه آخر فيقال: الدليل العقلي والدليل النقلي، إما أن يكونا قطعيين، وإما أن يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
أما كونهما قطعيين في الدلالة والثبوت، فهذا ممتنع إلا إذا فرض اتفاقهما، وأما على فرض تعارضهما فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم عليه تعارض قطعي الثبوت والدلالة مع قطعي الثبوت والدلالة، وهذا مخالف لأصول الحقائق العقلية، فإن الجمع بين النقيضين ممتنع.
وكون الدليل النقلي والدليل العقلي كل منهما ظني الثبوت ظني الدلالة؛ هذا أيضاً وإن فرض العقل جوازه ممتنع، لأنه يلزم عليه أن تكون المعرفة والتوحيد لا تتعدى ولا تتجاوز الظن، وأن لا يكون هناك علم في أصول الدين، ولا شك أن هذا ممتنع عقلاً وشرعاً، فلم يبقَ إلا أن يكون الدليل العقلي والنقلي أحدهما قطعي الثبوت والدلالة والآخر ظنياً، ومعلوم أن القرآن قطعي الثبوت بإجماع المسلمين، ومن نازع في قطعية ثبوته فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، لا يقبل منه صرف ولا عدل.
ومعلوم أن القرآن قطعي الدلالة، ووجه كونه قطعي الدلالة: لأنه لا أفصح عند العرب من الإسناد في ذكر الصفة أو ذكر الفعل، فإنك إذا أردت -ولله المثل الأعلى- أن تخبر بأنك قمت، أو بأن زيداً قد قام، فإنه ليس هناك أفصح في لسان العرب من أن تقول: إن زيداً قد قام، وإن زيداً يتكلم، وإن زيداً انصرف .. إلخ ذلك من إسناد الفعل أو إسناد الحال.
ومعلوم أن أسماء الرب وصفاته جاءت مسندةً صريحة، وليس هناك موجب لدعوى أن الدلالة في اللسان ظنية، ويمكن أن يلخص هذا المعنى بطريقة أخرى فيقال: من زعم أن دلالة القرآن ظنية، فإنه يقال له: إذا أردنا الدلالة القطعية فبماذا يعبر عنها باللسان؟ فإذا كان قول الله تعالى: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ} [المجادلة:22] ظني الدلالة على إثبات صفة الرضا، فما هو التعبير الذي يكون به قطعي الدلالة؟
لا يوجد في لسان العرب أفصح وأصرح في إثبات الصفة من إسنادها إلى موصوفها.
فإذا ثبت أن القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فيلزم من ذلك أن غيره مما يسميه هؤلاء عقلاً ليس كذلك، وأحسن أحواله أن يكون ظناً، ولا شك أنه في نفس الأمر ليس ظناً بل هو وهم، وحقيقة الوهم كذب كما هو مجمع عليه، وكما نص عليه أئمة هؤلاء، كـ ابن سينا في (الإشارات)، فإنه قال: (أجمعت الحكماء على أن حقيقة الوهم كاذبة)، أي: لا حقيقة لها.
الوجه الثالث: أن يقال: إن معارضة الدليل النقلي لما يسمى عقلياً يدل على أن النقل مجرد عن الحكم والدلالة العقلية، والأمر ليس كذلك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأئمة هؤلاء يلتزمون هذا المعنى فيقولون: إن الدليل النقلي دليل خبري مبني على صدق المخبر)، أي: ليس فيه ما يفيد الحكم العقلي، إنما هو مجرد تصديقات، وليس مخاطبةً للعقول، ولا شك أن هذا غلط، بل الدليل النقلي منه ما هو خبري محض، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وكقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وكقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف:59].
ومنه ما هو خبري باعتباره قرآناً منزلاً على الرسول عليه الصلاة والسلام، وعقلي باعتباره مخاطباً لأصل العقل، ولهذا يصححه من آمن بالقرآن ومن لم يؤمن، كقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] وكقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، وكقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، فكان الجواب: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، وهذا رد عقلي، ولهذا قال شيخ الإسلام: (والقرآن مملوء بذكر الدلائل العقلية الموجبة لصحة الإيمان واستقامته).
قال: (والدليل الذي تسميه الفلاسفة بالدليل البرهاني، وهو الذي يزعمون أن نتيجته يقينية؛ الصواب منه مذكور في القرآن، وهو ما يسمى في القرآن بالأمثال المضروبة، كقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] وقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28] في تقرير التوحيد إلى غير ذلك.
فالأمثال المضروبة في القرآن هي الدلائل العقلية اليقينية، مع أنه يعلم أنه ليس كل ما زعمه المتفلسفة دليلاً عقلياً يقينياً -وهو القياس البرهاني- يكون كذلك، لأن المتفلسفة كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم ممن هم على طريقة أرسطو في منطقه، زعموا أن القياسات خمسة: القياس البرهاني، والقياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس الشعري، والسفسطي.
وزعموا أن الحكماء -أي: الفلاسفة- هم المختصون وحدهم بالدلائل البرهانية المفيدة لليقين.
ولا شك أن المتكلمين خير منهم؛ فإن كل من كان إلى الكتاب والسنة أقرب كان قوله ودليله أقوم وأصدق.
فكان الصواب أن يقال: الدليل النقلي إذا عارضه دليل بدعي؛ لأن النقل يراد به الشرع، ومعلوم أن الذي يعارض ذلك يسمى في حكم الله ورسوله دليلاً بدعياً.
وأما أن يقال: الدليل النقلي إذا عارضه دليل عقلي، فهذا مبني على مقدمة كاذبة وهي: أن النقل بريء من الأحكام العقلية؛ وهذا لم يقله إلا أئمة الجهمية الغالية، ولا يلتزمه عارف بأدلة القرآن وبيانه وأحكامه، فإن الله ذكر من الحجج العقلية ما يصحح الإيمان ويهدي العقول.
الجواب الرابع: أن يقال لهم: ماذا تقصدون بالدليل العقلي؟ إن زعموا أن المراد بالدليل العقلي هو نظر كل عاقل وحده -أي: نظر زيد وحده ونظر عمرو وحده- فهو على كل تقدير: الدليل الذي عارض عندهم نصوص الأسماء والصفات.