وأما دلائل الرؤية فمن القرآن قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فإن النظر أضيف إلى الوجوه وعدي بـ (إلى)، فدل ذلك على أن المراد به النظر بالأبصار.
وتعلم أن النظر في لسان العرب يأتي بحسب سياقه على غير معناه كقولهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] وكقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، فهذه معان مختلفة، وهذه قاعدة من أهم القواعد لطالب العلم في فقهه لمذهب أهل السنة ودلائلهم: وهي أن تفسير الأئمة للآيات والأحاديث النبوية، ليس معتبراً بوضع الكلمة المفردة في اللغة، بل هو معتبر بسياق الكلام نفسه.
وهذا يرد قول من قال: إن النظر في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، بمعنى الانتظار؛ لأن النظر يأتي في كلام العرب على معنى الانتظار، ومنه قوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أو قال: إنه التفكر، لأنه يأتي في كلام العرب كذلك ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ} [الأعراف:185] أي: نظر تفكر أو نحو ذلك.
ومثله في الصفات الأخرى، كقول من قال إن اليد في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] المراد بها هنا النعمة؛ لأن العرب تذكر اليد وتريد بها النعمة.
ومنه قول عروة بن مسعود لـ أبي بكر رضي الله عنه في الحديبية كما في الصحيح: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك).
أي: لولا نعمة لك علي.
فالسياق يوجب أن تفسر اليد بالصفة ويرد تأويلهم؛ فإن قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ذكر لفظ اليد هنا مثنىً مضافاً، وإذا ذكر مثنىً مضافاً، فإنه لا بد أن يفسر بالصفة القائمة بموصوفها ولا يمكن أن يكون المراد به النعمة أو نحو ذلك.
ومن دلائل الرؤية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فلفظ الزيادة لفظ مجمل، لكنه صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي رواه مسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله، ومن هنا كان هذا اللفظ مبيناً بالسنة.
ومن دلائلها قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فإن الله نفى الإدراك، والإدراك قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه ثابت، وإلا فلا معنى لتخصيص القدر الزائد بالنفي، بمعنى أنه لو كان أصل الرؤية ممتنعاً، فلن يكون لتخصيص القدر الزائد بالنفي معنى، ومعلوم في حس بني آدم أن بين الإدراك وأصل الرؤية فرقاً، فإنك إذا رأيت الشيء لا يلزم أن تكون قد أدركته.
وقد قال رجل لـ ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن عباس إن الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ويقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: ألست ترى السماء؟ قال الرجل: بلى؛ قال: أتدركها كلها؟ قال الرجل: لا.
قال فالله أعظم.
وأما قول من قال: إن تفسير قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه في الدنيا، فهذا قول قاله طائفة من أهل السنة ولكنه ليس براجح، بل الصحيح أن الآية على عمومها، وأن من خصائصه سبحانه أنه يُرى ولا يدرك، بخلاف غيره؛ فإنه إذا رئي يدرك أو يكون ممكن الإدراك، وهذا معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي في صفاته الثابتة، فهو يرى ولا يدرك، كما أنه يُعْلَم من علمه شيء ولا يحاط به علماً.
ومن دلائل الرؤية عند أهل السنة قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ووجه الدلالة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية، ولو كان -كما تزعم المعتزلة- من أصل التوحيد أن الله سبحانه تمتنع عنه الرؤية، للزم من ذلك أن يبعث الله رسولاً ويصطفيه برسالته وبتكليمه على الناس، ويكون جاهلاً بأصل من أصول الربوبية!
وقد علق الله رؤيته بأمرٍ ممكن، وهو استقرار الجبل مكانه، فدل على أنها ممكنة.
ومن دليل أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم: متواتر الحديث؛ فإنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق نحو ثلاثين من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة، في الصحيحين والسنن والمسانيد، تصريحه صلى الله عليه وسلم بين يدي أصحابه مع اختلاف أحوالهم: أن المؤمنين يرون ربهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تضامون في رؤيته) متفق عليه.
ومن ذلك حديث أبي موسى في الصحيحين، وحديث صهيب عند مسلم، وحديث جرير بن عبد الله البجلي إلى غير ذلك.