يعتبر الإمام الطحاوي من أخص أصحاب الإمام أبي حنيفة، وإن كان نشأ شافعياً؛ لأنه ولد في بيت شافعي، إلا أنه تحول إلى مذهب الإمام أبي حنيفة.
وإذا نظرنا إلى رسالته هذه وجدنا أنها تقرر مجمل عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، لكن هناك بعض المسائل التي قد يُتردد في صحتها وانضباطها، وهذا معتبر بمسألة وهي:
أن أصحاب الأئمة الأربعة الذين أخذوا عنهم مباشرة قد انضبط شأنهم -في الجملة- في كونهم على طريقة أئمتهم في مسائل أصول الدين.
وأما من جاء بعدهم من أتباع الأئمة الأربعة، فهؤلاء في الجملة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في مسائل أصول الدين:
القسم الأول: من حقق أصول إمامه تحقيقاً صحيحاً، فيكون موافقاً لمعتقد الأئمة انتحالاً وتحقيقاً.
انتحالاً: أي أنه ينتحل مذهبهم، وتحقيقاً: أي أنه أصابه وعرفه وضبطه، وهذا هو شأن المحققين من الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
والانضباط في هذه الطوائف الأربع أكثره في الحنابلة، وأقله في الحنفية، ثم الشافعية، والمالكية أقرب إلى الحنابلة انضباطاً؛ وموجب ذلك ليس من جهة التعصب بتقديم الحنابلة، وإنما موجبه: أن كلام الإمام أحمد رحمه الله في مسائل أصول الدين شائع، وقد كان ينتحل مذهبه من هو من أعيان الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية، بخلاف كلام الإمام أبي حنيفة، فإنه ليس شائعاً في هذه المسائل.
وأما أصحاب مالك فيميلون إلى الحنابلة؛ لأنه لم ينتحل مذهب الإمام مالك إمام له شأن وأتباع من المخالفين لأصول السلف أو المائلين عنها، بخلاف الإمام الشافعي، فإنه وإن كان أصحابه أكثر انضباطاً من أصحاب أبي حنيفة، إلا أنه لما جاء أبو الحسن الأشعري -وهو شافعي المذهب- تقلد كثير من الشافعية مذهب أبي الحسن، ولا سيما أن أبا الحسن كان ينتحل مذهب الأئمة المتقدمين، ويصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مع أنه من حيث الفقه ليس على مذهبه، وإنما يعتبره مذهباً له في أصول الدين؛ لما شاع من اختصاص الإمام أحمد بتقرير هذه المسائل.
وبسبب ظهور أبي الحسن الأشعري كثر في الشافعية الغلط والمخالفة لأصول السلف.
القسم الثاني: من انتحل مذهباً انضبطت مخالفته لمذهب السلف -أي: معروفاً بالمخالفة زمن الأئمة- سواء كان هذا مذهباً متقدماً، أو كان مذهباً طرأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وهذا يقع فيه خلق من الأحناف، والشافعية، والمالكية، وقليل من الحنابلة، ولا سيما في أصحاب أبي حنيفة؛ فإن طائفة منهم انتحلوا الاعتزال مذهباً في أصول الدين، وقد كانت المعتزلة طائفةً معروفةً بالمخالفة لمذهب الأئمة أنفسهم، وإن كان هذا القسم من أصحاب الأئمة كثير منهم يكون ميلهم عن طريقة إمامهم بانتحال مدرسة أو مذهب نشأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة.
وأخص مدرسة حصل بموجبها الغلط هي: مدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري؛ فترى كثيراً من الشافعية، والمالكية، وطائفة من الأحناف، على مذهب أبي الحسن الأشعري في مسائل أصول الدين، ومذهبه فيه موافقة للسنة والجماعة وفيه مخالفة، ولكن أصحابه من بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ومن بعده الجويني ابتعدوا عن طريقته إلى طريقة مقاربة لطريقة قوم من المعتزلة، ولذا فإن المتأخرين من الأشاعرة أبعد عن أصول السنة والجماعة ومقالاتهم من الأشعري نفسه، فإن طريقته مقاربة في كثير من مواردها لطريقة السلف، مع ما عنده من الغلط والمخالفة للإجماع.
ثم جاء المتأخرون -كـ محمد بن عمر الرازي وأمثاله- الذين خلطوا مذهب الأشعري بأصول من الفلسفة، وكلام ابن سينا، وشيء من كلام المعتزلة، إلى غير ذلك، فصارت مدرسة الأشعري في طورها الأخير -ولاسيما بعد أبي المعالي الجويني - مباعدة لطريقة الأشعري نفسه، فضلاً عن مباعدتها لطريقة السلف.
القسم الثالث: وهم خلق من أصحاب الأئمة الأربعة غير منضبطين على أصول الأئمة، ولا ينتحلون مذهباً من المذاهب الكلامية كمذهب الماتريدي أو مذهب الأشعري أو غير ذلك، وإنما هم قوم ينتحلون أصول الأئمة، ويعرفون جملهم، ويعظمون السنن والآثار، ويذمون البدع، ولكنهم إذا أخذوا في تفصيل هذه الجمل غلطوا في بعض مواردها.
وموجب هذا الاختلاط: أنهم أخذوا بالأصول التي عرفت عن الأئمة، لكن لكون طائفة ممن يشاركهم في الانتماء للمذهب الفقهي لهم اتصال بمدرسة كلامية كالاعتزال، أو الماتريدية، أو الأشعرية، أو غيرها؛ صار عندهم تأثر بهؤلاء؛ فمثلاً: يوجد في الشافعية من هم على طريقة المتكلمين، فمن لم يحقق طريقة السلف من الشافعية أنفسهم فإنه يتأثر بهؤلاء الشافعية المتكلمين، فيدخل على طريقته شيء من المقولات والتأويلات الكلامية.
وهؤلاء ما بين مستقل ومستكثر، وهذا الصنف يكثر في الحنابلة أكثر من غيرهم، فمثلاً: ابن عقيل وقبله القاضي أبو يعلى، وكذلك التميميون من الحنابلة كـ أبي الحسن التميمي، وأبي الفضل التميمي، وأمثالهم، هم من أهل هذه الطريقة، بمعنى أنهم متأثرون بشيء من الغلط في مسائل أصول الدين، لكنهم من حيث الجملة على أصول الأئمة.