لكن الذي جاء في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن علياً رضي الله عنه لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه إلا بعد ستة أشهر، وهذه على كل حال مسألة مختصة، فإنه ثبت في الصحيح وغيره أن علياً بايع بعد ذلك، وبيعة علي لـ أبي بكر متفق عليها.
وبيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه مجمع عليها بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى علي، فإنه قبل بيعته لـ أبي بكر ما كان خارجاً عليه، فلا يفهم من عدم مبايعة علي لـ أبي بكر رضي الله عنهما في بداية الأمر أنه كان خارجاً على أبي بكر، ومعلوم أنه لا يلزم سائر الأعيان من أهل الحل والعقد أن يأتوا بأعيانهم للمبايعة، فقد يكون هناك موجبات وأسباب، أو حتى تقصير في الإتيان، لكن مع هذا لا يسمى هذا رفضاً أو إبطالاً من علي لبيعة أبي بكر أو تحريضاً للناس على الخروج عليه.
وإذا كان بعض المبتدعة قد سمى هذا رفضاً من علي رضي الله عنه، فكل هذا لم يكن، فضلاً عن كون علي رضي الله تعالى عنه جاء بعد ذلك وبايع أبا بكر رضي الله عنه، فهذه بيعة متفقٌ عليها.
ثم إن الكثيرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بايعوا علياً بالتعيين مع أن بيعة علي رضي الله عنه وخلافته مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة، فإذا كان فعل علي رضي الله عنه يعد طعناً في بيعة أبي بكر رضي الله عنه، لزم أن يكون فعل هؤلاء الصحابة طعناً في بيعة علي، فإن المتخلفين عن بيعة علي أكثر، ولم ينقل أن أحداً تخلف عن بيعة أبي بكر إلا علياً ثم جاء وبايع، وأما من عداه فإنهم بايعوه وأقروه، سواء جاءوا بالتعيين، أو أقروا إقراراً، أو اتخذوا طاعته وسمعوا له، ومعلوم أن من سمع وأطاع فإنه يعد مبايعاً ولا يلزم بالضرورة أن يأتي بعينه، والإلزام من تكلف أهل البدع في التشكيك بخلافة إمام الأمة وصديقها رضي الله تعالى عنه.
ثم الخلافة من بعد أبي بكر في عمر رضي الله تعالى عنه، ثم الخلافة من بعده في عثمان رضي الله عنه، ثم الخلافة من بعده في علي رضي الله عنه، وخلافة الخلفاء الأربعة مجمع عليها بين السلف.
والحقيقة أن المسألة الممكنة التي لو فرض جدلاً أن فيها مثاراً من الإشكال والسؤال -ولهذا كان السلف يدرءون القول فيها، ويحققون الجزم بها- هي خلافة علي رضي الله عنه، فإن الناس كانوا فيها متفرقين حتى الصحابة وحتى حصل القتال، وأما بيعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنها بإجماع أهل العلم كانت أحكم من بيعة علي رضي الله عنه، مع أن بيعة علي رضي الله تعالى عنه بيعة شرعية بإجماع السلف، وخلافته خلافة نبوية.
وقد كان الإمام أحمد وأمثاله يقولون: (من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله)، مع أن طائفة من الصحابة كانوا مقاتلين لـ علي، ولهذا قيل للإمام أحمد: فكيف بمن قاتله؟ فقال: (أنا لست من حربهم في شيء)، وقيل له أيضاً: قد كان لا يربع به من لا يقال له: إنه أضل من حمار أهله، يعنون بذلك من قاتله من الصحابة، كـ معاوية وغيره، فقال الإمام رحمه الله: (أنا لست من حربهم في شيء).
فالإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السنة جزموا بخلافة علي وأنها خلافة راشدة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، كما في حديث سفينة رضي الله عنه المخرج في المسند وغيره، وهو حديث صحيح ذكره الإمام أحمد واحتج به وكذا غيره من أئمة السنة، فهذا هو الموجب عندهم.
ومعنى قوله: (أنا لست من حربهم في شيء)، أي أنه إذا اجتهد مجتهدٌ ولو كان صحابياً فأخطأ في اجتهاده ولم يتبع علياً رضي الله تعالى عنه، فإن اجتهاده وخطأه لا يمكن أن يكون موجباً لترك ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من البيان في هذه المسألة.