وهذه الأركان التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، وجعلها هي الإيمان، استدل بها المرجئة على أن الإيمان في القلب، وأنه لا يكون في الظاهر، وأن العمل ليس إيماناً، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإيمان جعل مورده القلب، ولما ذكر الإسلام جعل مورده الأعمال الظاهرة.
وهذه مسألة الفرق بين الإسلام والإيمان، وقد اختلف فيها السلف اختلافاً لفظياً أو اختلاف تنوع، وقد تقدم أن مذهب عامة السلف، إلا ما حكي عن البخاري والثوري: أن الإيمان أخص، والسند عن الثوري لا يصح كما ذكره ابن رجب، وكذلك البخاري إنما حُصِّل مذهبه بالفهم.
ولهذا يقال: إن المستقر عند السلف وهو ظاهر الكتاب والسنة، أن الإيمان أخص، واستدل من المرجئة على كون الإسلام أفضل، بأن الأنبياء سألوا الإسلام، كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] قالوا: فدل على أن الإسلام أفضل.
واستدل من استدل على التسوية بينهما، بمثل قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، قالوا: هذا يدل على أن الإيمان والإسلام سواء.
ولا شك أن سائر هذه الأدلة لا تدل على ذلك، فإن الإسلام الذي سأله إبراهيم وإسماعيل، لا شك أنه الاستسلام لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، وهو الدين الذي ذكره الله بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وما قال أحد من السلف إن الإسلام ظاهر لا باطن له، فإن الظاهر الذي لا باطن معه هو النفاق، وإذا سمي إسلاماً في بعض المقامات، فإنه يراد به الاستسلام الذي يمنع القتل ويمنع عدم إجراء الأحكام الظاهرة على صاحبه، وإلا فإن الإسلام الشرعي الذي امتدح الله سبحانه وتعالى أهله، كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35]، إلى غير ذلك، لا بد له من باطن.
ومعلوم أن الأعمال الظاهرة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..) الحديث، مبنية على الباطن، كما أن لها ظاهراً، فمن قال: لا إله إلا الله، ولم يرد بذلك التوحيد والبراءة من الشرك، فإن شهادته لا تنفعه عند الله بإجماع المسلمين، ومثله من قال: إن محمداً رسول الله، ولم يكن ذلك صدقاً من قلبه، فإنه شهادته لا تنفعه، ومثله من صلى أو أدى الزكاة نفاقاً، فإن مثل هذا العمل لا ينفعه بالإجماع وبصريح الكتاب والسنة، والمقصود من هذا أن الإسلام الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، له ظاهر وباطن بالإجماع، وإذا كان الإسلام ظاهراً لا باطن معه، فإنه النفاق الأكبر الذي ذكر الله كفر أهله في كتابه.
وعليه: فإن الإسلام المطلق يتضمن الإيمان، ولهذا دعا به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كمثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128].
وأما قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] فإنه دليل على أن الإيمان أخص، وليس دليلاً على التسوية.
ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] فلما ذكر الإيمان، ذكره في مقام المخرجين، أي أن الذين أخرجوا منها هم فقط أهل الإيمان، ولا شك أن الذين خرجوا جميعهم من أهل الإيمان ظاهراً وباطناً.
ثم قال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] لأن هذا البيت فيه امرأة لوط، وامرأة لوط مسلمة في الظاهر كافرة في الباطن، ولهذا قال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] فسماهم مسلمين لأن فيهم من هو منافق، وهي امرأة لوط عليه الصلاة والسلام.
قال شيخ الإسلام: (وأقوى ما استدل به من سوى بين الإسلام والإيمان من المتأخرين، هذا السياق من القرآن، قال: وهو عند التحقيق يدل على التفريق، أو على أن مقام الإيمان أخص، فإن المخرجين لم يكن معهم امرأة لوط، كما قال تعالى: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83]، ولهذا لما ذكرهم الله سماهم مؤمنين، وأهل البيت سماهم مسلمين؛ لأن المرأة فيهم وهي منافقة)، وهذا استدلال متين وتحقيق بيَّن.
وهذه الأركان التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كل ركن منها قد يتضمن غيره أو يستلزمه، فإذا قلت: إن الإيمان بالله يتضمن أو يستلزم الإيمان بالملائكة، وكتبه .. إلخ، كان هذا صحيحاً، ولهذا فإن سائر موارد الشريعة وأحكامها الظاهرة والباطنة تعود إلى هذا التفسير.