وهذا يجرنا إلى الكلام عن مسألة في موجبات البدع وأصولها، ففي مسائل الإيمان والقدر والصفات، تجد أن الطوائف المخالفة للسلف طوائف كثيرة، وتجد أنها أيضاً طوائف متضادة، كالمشبهة مع المعطلة، والقدرية مع الجبرية، والمرجئة مع الخوارج والمعتزلة، ومع هذا فإنك إذا اعتبرت التحقيق، فإن أصول هذه البدع مع تضاد نتائجها هي أصول واحدة، فمثلاً في مسألة الصفات: تجد أن المشبهة كـ هشام بن الحكم وداود الجواربي، وأئمة التجسيم كـ محمد بن كرام، وأئمة المعتزلة نفاة الصفات، ومتكلمة الصفاتية كـ ابن كلاب والأشعري والماتريدي، كل هؤلاء مع تضاد نتائجهم أو اختلافها يعتبرون مبنىً أساساً في قولهم في مسألة الصفات، وهو دليل الأعراض، فمذهب المعتزلة يعتبرونه نتيجة لدليل الأعراض، والمشبهة يعتبرون مذهبهم نتيجة لدليل الأعراض، والأشاعرة يجعلون مذهبهم نتيجة لدليل الأعراض، والماتريدية كذلك، وإذا نظرت في كتب هذه الطوائف، وجدت أنهم يستدلون بدليل الأعراض، فإن قيل: فكيف تحصل بدليل واحدٍ هذه النتائج المتضادة أو المختلفة على أقل تقدير؟
قيل: هذا يرجع إلى أحد موجبين:
الموجب الأول: هو الخلاف في بعض المقدمات، مثلاً الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم .. إلخ.
جاءت المعتزلة فجعلت العرض ما يقابل الجوهر، وعن هذا قالوا بنفي سائر الصفات، وجاء الأشعري وقبله ابن كلاب فقال: والعرض هو ما يعرض ويزول ولا يبقى زمانين، وعن هذا ترى أن ابن كلاب والأشعري والماتريدي التزموا نفي الصفات الفعلية التي سموها الحوادث، وأما أصول الصفات فهي عندهم ثابتة على خلاف بينهم؛ لكونها لا تسمى أعراضاً، لأن حد العرض عندهم ما يعرض ويزول.
وهذا كله تكلف، إذ بأي عقل وبأي نظام وبأي منطق وبأي قانون لزم أن العرض هو ما يزول ولا يبقى زمنين، إنما هو نوع من الحد لا أقل ولا أكثر، وهو من التحكم على لغة المنطق، لأنه حدٌ على غير موجب.
الموجب الثاني: من جهة اللوازم، فمثلاً: الإشكال القائم بين نظرية الجبر ونظرية القدر، كنظرية فلسفية هو إشكال واحد، وهو أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، وهذا ليس كلاماً فلسفياً يقوله ابن سينا أو غيره فقط، بل يقوله أيضاً الغزالي والرازي، وأبو المعالي الجويني، فضلاً عن أئمة المعتزلة.
فقالت الجبرية: المؤثر هو الله، وشاركهم في هذا في الجملة الكسبية من الأشعرية ونحوهم، وقالت القدرية: المؤثر هو العبد.
وقد تقدم في مسائل القدر التعليق على أن متكلمة القدرية يختلفون عمن قال بأن أفعال العباد ليست مخلوقة من بعض رجال الرواية والإسناد، فإن من قال ذلك من بعض رجال الرواية الذين قال الإمام أحمد فيهم: (لو تركنا الرواية عن القدرية تركناها عن أكثر أهل البصرة) لم يكن موجب المقالة عنده هو الموجب عند أبي الهذيل العلاف أو واصل بن عطاء من المعتزلة، بل الموجب مختلف، مع أن المقالة قد تكون في الجملة مقالة واحدة، وإذا التزمت تفصيل النتائج، وجدت أن النتائج يلحقها قدرٌ من الاختلاف.
فالقانون الذي يعتمده المتكلمون قانون عقلي، والحقيقة أنه رأي فلسفي لا أقل ولا أكثر، وهو مبني على قياس الله بخلقه، وهو قياسٌ فاسد بإجماع المسلمين، أنه لا تكون للعبد إرادة ومشيئة على الحقيقة، لأن الله هو الخالق لفعل العبد، ولم يفقهوا الفرق بين كونه خالقاً وكونه فاعلاً، فلا أحد من السلف يقول: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد بل الأفعال أفعال العبد، ولكن الله هو الخالق.