وأما تفاصيل ماهية اللوح والقلم فإن هذا لم تفصله النصوص، وإنما الذي جاء في النصوص: (أول ما خلق الله القلم.
فقال له: اكتب.
قال: ماذا أكتب.
قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، كما في حديث عبادة في سنن أبي داود وغيره.
وقد اشتغل طوائف من أهل الكلام والصوفية بتفاصيل ماهية اللوح والقلم كما في كلام أبي حامد الغزالي، فإنه تارة يأتي بكلام يأخذه عن المتكلمين الذين أخذوا عن الفلاسفة في هذه المسائل، وهو أنواع من التأويل والتحريف، وتارة يتكلم بطريقة الصوفية، ومعلوم أن أبا حامد الغزالي رحمه الله ليس له حال واحدة.
ويخطئ من يخطئ فيقول: إنه رجع إلى مذهب معين، فإنه وإن كان له حال من الفضل في آخر عمره والإقبال على القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن أبا حامد له حال مستطيلة في معرفته ودراسته ونظره، فـ أبو حامد هو من أخص من قرر نزعة فلسفية لم تظهر إلا في القرن الرابع وما بعده، وهي: أن المذهب الشخصي ليس واحداً.
ولهذا قال الغزالي في كتبه المتأخرة: (فإن قيل ما المذهب؟ قال: المذهب ليس واحداً، فأما الجدل فهو على طريقة المتكلمين، وأما مذهب العامة فهو بالزواجر والدواعي، وأما المذهب السر بين العبد وبين ربه فهو طريقة الصوفية)؛ ولهذا نجد كتب أبي حامد بعضها على طريقة المتكلمين كـ (الاقتصاد) مثلاً وكـ (قواعد العقائد) وغيرها، وهذه يجعلها للمجادلة والمناظرة والمنافحة، وكذلك (تهافت الفلاسفة)، فإنه كتبه على الطريقة الكلامية، ولهذا لما كتبه قال: (ونحن نحتج في هذا المقام على الفلاسفة بقول أصحابنا وقول المعتزلة لدفع صول هؤلاء على الإسلام).
وهذه هي طريقة المتأخرين من الأشاعرة كـ أبي المعالي وأمثاله، ومعلوم أن أبا حامد ممن أخذ عن أبي المعالي وكان من أصحابه، وأما الحالة المختصة عند أبي حامد الغزالي، فهي الحالة الصوفية، وعليها كتب كتبه الأخرى كـ (كيمياء السعادة)، و (جواهر القرآن)، و (مشكاة الأنوار)، وأمثالها من الكتب التي غلا فيها، وقال فيها أقوالاً بالغةً في الخطأ والضلال، وإن كان طرفاً من هذه الكتب ولا سيما كتاب (المضنون به على غير أهله) يُتكلَّم في صحته عن أبي حامد، لكن مما هو متحقق أن طرفاً من هذه المقالات معروفة لـ أبي حامد وقد قررها في أكثر من كتاب، وهي طرق شديدة في الغلط والمبالغة في التصوف على طريقة متفلسفة الصوفية.
وأما كتاب (إحياء علوم الدين) فهو من أجود كتب أبي حامد التي كتبها في هذا الباب؛ ولهذا قال شيخ الإسلام: (وأما الإحياء فغالبه جيد، لكن فيه ثلاث مواد فاسدة: مادة من ترهات الصوفية، ومادة فلسفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة).
والغزالي وإن كفَّر الفلاسفة في كتبه المتأخرة ولا سيما في (التهافت) إلا أنه قد تأثر بهم كثيراً، فعندما تكلَّم في مقامات العارفين تكلَّم فيها بنفس أحرف ابن سينا في (الإشارات والتنبيهات)، فهو متأثر تأثراً بالغاً بكلام ابن سينا وأصول الفلاسفة الإشراقية، وإن كان بعيداً عنهم في المسائل العقلانية النظرية كمسألة قدم العالم ومسألة العلم بالجزئيات إلى غيرها، مع أن أبا الوليد ابن رشد لما رد على أبي حامد قال: (إنك في كتبك لما ذكرت درجات المحسوبين ذكرت أن من أشرف الدرجات من جعل الوجود وجوداً مطلقاً، وأن واجب الوجود ليس داخل العالم ولا خارجه ..
إلخ، قال: وهذا هو مذهب أرسطو وقد امتدحته في بعض كتبك).
والحق: أن أبا حامد لم يمتدحه امتداحاً مطلقاً، ولكنه متأثر بهذه الأصول، فحاله منغلقة، وقد ذكر عن نفسه في كتابه (المنقذ من الضلال) أنه ظل متحيراً زماناً، وأن حيرته زالت بنور قذفه الله في قلبه، فله أحوال مختلطة كثيرة، مع أنه كان عظيم العبادة والصدق والإيمان، عظيم العلم بالفقه وأصوله، وله مقامات حسنة في الإسلام.