وقوله: (والنظر)، أقول: النظر ليس مذموماً في الشرع، وهو حرف لا يدل على تعدٍ على أمر الله أو دليل الشارع، وإن كان النظر ليس هو أول الواجبات، بل ولا يجب على كل أحد، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى النظر في حق من شاب توحيده أو معرفته شيء من الإشكال، فإنه يؤمر بالاعتبار والنظر حتى يصحح ما عرض له من الإشكال، كقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} [الأعراف:184] {أَوَلَمْ يَنظُرُوا} [الأعراف:185] إلى غير ذلك.
فالنظر ليس مذموماً على الإطلاق، وليس واجباً على كل أحد فضلاً عن أن يقال: إنه أول الواجبات، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأصل عدم الوجوب، ولكن من عرضت له حال لا تزول إلا بالنظر، فإنه يكون واجباً عليه من هذا الوجه، ويكون المشروع هنا هو النظر الشرعي.
وفرق بين النظر الشرعي والنظر الذي يذكره علماء الكلام؛ فإنهم يذكرون النظر على مقدماتهم الكلامية، وأما النظر الشرعي فهو المذكور في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، ومن ذلك ما كان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في محاجته لقومه، فإنه أبطل ما هم فيه من الكفر والشرك بحجج من النظر، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً)؛ هذه الكلمة لو لم يعبر بها لكان أجود، فإن النظر في هذا الباب ليس مذموماً على الإطلاق، وإنما بالغ في ذم النظر بعض الصوفية الذين زعموا أن هذا باب لا يكشف إلا لبعض العارفين، والحق أن الله سبحانه وتعالى بيَّن أصول القدر وأصول العلم بهذا الباب في كتابه، وبيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شرعياً موافقاً للعقل، وهذه أجوبته صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولما خاصمت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر نزل قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد ثبت في السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم وطائفة من أصحابه يختصمون في القدر فنهاهم عن ذلك، فقول من قال: إن الصحابة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، غلط بالإجماع، بل إن الذين خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر هم المشركون، وإذا كان طائفة من الصحابة اختصموا فيما بينهم في بعض مسائل القدر، فلا يعني ذلك أنهم مخاصمون فيها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم إن مثل هذه الأحوال التي تعرض -كخصومة بعض الصحابة لبعض في القدر- لا تعرض لأئمة الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما هي حال تعرض لبعض من هو دونهم في الفقه والإمامة في العلم.