وتحت هذه الجملة التي ذكرها أبو جعفر رحمه الله ما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد -وفي رواية: إن الرجل- ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب -أي: القدر الذي كتبه الله- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
أما من جهة من يعمل بعمل أهل النار ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فليس فيه إشكال، فإنه بيِّن في حال المشركين وأمثالهم الذين كانوا على الشرك ثم هداهم الله للإسلام، فكثير منهم إنما هدي للإسلام في آخر عمره فختم له بالإسلام.
ولكن المعنى الذي تكلم كثير من الشرَّاح فيه هو قوله: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وبهذا احتج من احتج من الأشاعرة على أن الاعتبار بمحض القدر، وأن فعل العبد لا أثر له في المآل، أي: في الشقاوة والسعادة.
وأما من جهة الثواب فإن سائر المسلمين أجمعوا على أن فعل العبد له أثر في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب).
والصحيح في هذا الحديث أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة)، أي: فيما يظهر للناس ذلك، بل هذا هو جوابه صلى الله عليه وسلم في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه حين قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)، فهو صريح في المدلول.
وكذلك سبب ورود الحديث؛ فإن رجلاً قاتل فقال الصحابة رضي الله عنهم: (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فقال رجل: أنا لكم به! فخرج معه، فجرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت فوضع نصل السيف على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أني عبد الله ورسوله، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ..) إلى آخره.
وعليه: فيكون قوله: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) محمولاً على أحد حالين:
الأول: أن يكون منافقاً يُظهر الإيمان ويبطن الكفر، ويختم له في آخر حاله بحال أهل النار كقتل النفس وأمثاله، ولا يعني هذا أن قتل النفس هو الموجب لكفره، بل هو كافر في الباطن، وإنما أظهر ما أظهر من أعمال الإسلام والشريعة نفاقاً.
الثاني: أنه وإن لم يكن منافقاً النفاق الأكبر إلا أنه ممن يعبد الله على حرف، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] قال شيخ الإسلام: (وكثير ممن يعبد الله على حرف يكون معه قبل هذه الفتنة جملة من الإيمان الصحيح، وإن كان معه مادة من النفاق، فينقلب بهذه الفتنة على وجهه).
وأما من آمن وصدق في الإيمان، ولم يعبد الله على حرف، بل صار مؤمناً محققاً لأصول الإيمان وإن كان يعتريه ما يعتريه من المعاصي والكبائر، فإن هذا لا يعرض له هذه الحالة بمحض الإرادة القدرية؛ فإن الله بكل شيء عليم، ولهذا قال ابن رجب وغيره من المحققين: (إنه لم يعلم عن أحد استفاض إيمانه في الناس أنه ارتد على هذه الحال).
وعليه: فإن كل من ارتد عن الإيمان لا بد أن شيئاً حدث من جهته هو، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، فدل على أن أهل الإيمان الصادق يثبتون على أصل الإيمان وإن كانوا قد ينقصون بعض ما هو منه، فإن الله يثبتهم على أصل الإيمان في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] أي: أن من خُتم له بعمل أهل النار فدخل النار، فإن هذا لا بد أن يكون من جهة ظلمه لنفسه: إما لكونه في الأصل منافقاً، وإما لكونه ممن يعبد الله على حرف.
وقول المصنف رحمه الله: (والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله)، أي: فقضاؤه سبحانه وتعالى عدل، وهو مبني على حكمته وعلمه بأحوال عباده وما يوافون به ربهم.