قول المصنف رحمه الله: [وكل ميسر لما خلق له].
هذا جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه المسألة، فقد ثبت في الصحيحين من رواية جماعة من الصحابة- أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل قالوا له: ففيم العمل؟ فكان جوابه صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: (اعملوا فكل ميسر)، وفي حديث علي رضي الله عنه: (فكل ميسر لما خلق له).
ومعنى هذا أن الفعل والعمل وإن كان من العبد، وأن العبد وإن كان له إرادة ومشيئة على الحقيقة، وأنه يفعل بإرادته ومشيئته واختياره، إلا أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي، وهو الذي يضل من يشاء، وهذا هو معنى قوله: (فكل ميسر لما خلق له) أي: أن من كتبه الله من أهل السعادة لعمل أهل السعادة، ومن كتبه الله شقياً فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة.
وهذا ليس مشكلاً من جهة العقل، بل كما قال شيخ الإسلام: (إن جوابه صلى الله عليه وسلم هو أتم الأجوبة من جهة الشرع ومن جهة العقل)، ووجه ذلك من جهة العقل: أن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق، وكتب السعيد والشقي، وإذا ثبت هذا المعنى المتفق عليه فإن الله كتب الأسباب وكتب المسببات، فإذا كتب عبداً من أهل النار، فلا بد أنه سبحانه وتعالى كتب أنه يعمل بعمل أهل النار وهو الكفر، وإذا كتب عبداً أنه من أهل الجنة فقد كتب له عملاً يناسب هذا المقام.
فليس في قدر الله أن عبداً يعمل الصالحات والإيمان ويكون شقياً من أهل النار، فإن الله كما كتب المآلات -أي: أن هذا في الجنة وهذا في النار، وأن هذا شقي وهذا سعيد- فقد كتب الأعمال، وكل مآل له عمل يناسبه، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من عصاه؛ إما عذاباً مطلقاً وهو الخلود في النار في حق من كفر به، وإما عذاباً دون عذاب في حق بعض أهل الكبائر.
وهذا الإشكال لا يزينه الشيطان إلا في باب الشرع ليصد به عن ذكر الله وعن توحيده وعن اتباع رسله، وإلا فإن هذا الإشكال لو كان صحيحاً لكان مطرداً في سائر أحوال بني آدم، ولا يختص بحالهم من جهة الديانة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنه لم يذهب إلى الاحتجاج بالقدر على الإطلاق أحد من عقلاء بني آدم).
ومراده بذلك أن القدر ليس مختصاً بباب الشرع، فكما أن الشقاوة والسعادة بقدر فكذلك الولد بقدر، وكذلك العدوان الذي يقع على الشخص بقدر، والبر الذي يلحقه بقدر
وهلم جراً، فإن الله قدر كل شيء.
قال شيخ الإسلام: (فلازم من احتج بالقدر على إسقاط الشرع أو معارضته أن لا يلوم من اعتدى عليه، فإن الذي اعتدى عليه إنما اعتدى عليه بقدر، وكذلك من قتل ولده فإنما قتله بقدر) وهكذا في الأكل والشرب، فإنه إن كتب على شخص أنه يموت في هذا اليوم فسيموت أكل أو لم يأكل، ومعلوم أن مثل هذه الأمور لا يصل إليها المجانين من بني آدم، فترى أن قدر الله سبحانه وتعالى على وفق العقل كما أنه على وفق الفطرة، وإن كان لا يخاض فيه خصومةً أو تفصيلاً لما لم يفصله الله سبحانه وتعالى أو رسوله.