من أصول المعتزلة: أن العباد لا يثابون إلا على ما يعملون، وأصل مبنى الثواب هو التوحيد، فإذاً أصله لا بد أن يؤخذ بالعلم النظري، ومن هنا قالت المعتزلة: إن أول واجب على المكلف هو النظر.
وعلى هذا عامة المعتزلة، إلا الجاحظ وأمثاله فإنهم خالفوا في ذلك.
وجاء الأشاعرة فقالوا: أول واجب على المكلف المعرفة، وبعض من سلك مسلك الاعتزال قال: هو النظر.
وقال بعضهم: أول جزء من النظر.
وقال بعضهم: القصد إلى النظر.
والخلاف بين سائر هذه الأقوال الكلامية خلاف لفظي كما صرح به الرازي وأبو حامد الغزالي، وكما صرح به شيخ الإسلام رحمه الله.
هذا مع أن الأشعري يخالف أصله في القدر أصل المعتزلة، فالأشاعرة يقاربون مذهب الجبر، والقول بأن أول واجب على المكلف هو النظر فرع عن كون العباد لا يثابون على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية، ولهذا قال أبو جعفر السمناني من علماء الأشاعرة ومن أصحاب القاضي أبي بكر ابن الطيب: (إن القول بإيجاب النظر بقي في مذهبنا من مذهب المعتزلة).
أي: أن الأشعري لما رجع عن الاعتزال لم يتخلص من مسألة المعرفة التي مقدمتها النظر، فالمعرفة نتيجة والنظر مقدمة.
وأشد إشكالاً من دخول المسألة على الأشعرية مع أن أصولهم تخالف أصول القدرية، دخول هذه المسألة على كثير من الأصوليين حتى من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، كما فعل المقدسي في كتاب (التبصرة)، وهو كتاب حسن مصنف في الجملة على مذهب أهل السنة، بل وفيه ردود على الأشاعرة، لكنه غلط في هذه المسألة فقال: (اختلف أصحابنا في أول واجب على المكلف، فقال بعضهم: النظر، وقال بعضهم المعرفة ..) إلى آخره، ومقصوده بأصحابه هنا الحنابلة.
مع أن القول بأن النظر أول واجب على المكلف لم يكن مذهباً لا لـ أحمد ولا لأئمة أصحابه، فإن السلف مجمعون على أن أول واجب على المكلف هو الشهادة، وبهذا خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم سائر الناس من كان منهم عارفاً أو جاهلاً أو وثنياً أو يهودياً أو نصرانياً، فقد جاء في حديث ابن عباس ومعاذ رضي الله عنهما لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أنه قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وقد ثبت في الأخبار والسير أن أهل اليمن إذ ذاك كان فيهم يهود ونصارى وعبدة أوثان.
إذاً ..
هذه الأقوال الكلامية كلها ترجع إلى أصل قدري اعتزالي ليس عليه أثر السنة والجماعة لا من قريب ولا بعيد، بل قال الجاحظ كما في بعض كتبه -وهو من أعيان المعتزلة القدرية-: (لا يلزم هذا المذهب حتى على أصولنا المقولة في باب القدر كما زعم أصحابنا).
وكثيراً ما يتكلم شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة ثم يدخل في مسألة أخرى، وقد يظن الظان أن هذه المسألة منفكة عن هذه، والصحيح أنها مبنية عليها، ككلامه في مسألة أول واجب على المكلف، فهو يبنيها على كلامه في مسألة القدر، ويركب هذه على هذه، فهذا ليس من الاستطراد وإنما من باب الرد في المسألة.
وقد تكلم كثير من أهل العلم في تفسير الفطرة، وذكروا مقالات السلف، ومن أجود ذلك ما ذكره أبو عمر ابن عبد البر الإمام المالكي رحمه الله في كتاب (التمهيد)، فإنه ذكر جملة أقوال السلف في تفسيرهم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي الجملة فالمقصود بالفطرة هي: التوحيد، وذلك بالإقرار بوحدانية الله سبحانه وأصل استحقاقه للعبودية، وإلا فالتفاصيل تتلقى عن الأنبياء والرسل.