لقد ذكر الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه استواءه على عرشه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] والعرش هو سقف المخلوقات، والله فوق عرشه، ولهذا فسَّر السلف الاستواء بالعلو، وإذا كان علياً على عرشه فإن غير العرش من المخلوقات يكون من باب أولى؛ لأن العرش هو سقف المخلوقات وهو أعظمها، فقول السلف هو القول الذي لا يمكن لعاقل -حتى ولو لم يكن مسلماً- إذا استعمل عقله الذي آتاه الله إياه إلا أن يصححه.
يقول شيخ الإسلام في (منهاج السنة) و (درء التعارض)، وغيرها: (وأما قولهم: لو كان متصفاً بالعلو لكان في جهة، فإنا نقول: إن لفظ (الجهة) لفظ مجمل حادث، فإن أريد بالجهة الجهة الوجودية -أي: الجهة المخلوقة- فإن الله منزه عن سائر مخلوقاته؛ لأنه بائن عن خلقه، وإن أريد بالجهة معنىً عدمياً، وهو أنه فوق العالم؛ فإن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه، فوق سماواته، مستو على عرشه).
ومن باب الاستطراد يقول رحمه الله: (ومن زعم أن سائر ما يكون موجوداً يلزم أن يكون في جهة مخلوقة فقد غلط، قال: فإن العالم متناهٍ من جهة كونه مخلوقاً، قال: ومعلوم أن سقف العالم ليس في جهة أخرى، وإلا لزم التسلسل، فإذا صح ذلك فيما هو مخلوق على جهة الإمكان العقلي ففي حق الخالق من باب أولى، بل يكون هذا في حقه واجباً، وهو لتنزيهه سبحانه وتعالى عن سائر مخلوقاته).
وقد كان الجاهليون فضلاً عن أتباع الرسل إذا ذكروا كونه سبحانه وتعالى في السماء يقصدون أنه في العلو، أي: فوق السماوات.
وقد استعمل بعض أئمة المثبتة للعلو كـ أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب؛ وأبي الحسن الأشعري دليل العقل على إثبات هذه الصفة، واستعمله أيضاً الإمام أحمد كما نص عليه شيخ الإسلام، قال: (فإن الإمام أحمد قال لبعض أئمة الجهمية في هذه المسألة: إن الله لما خلق العالم خلقه بائناً عن ذاته، أوحالاً في ذاته؟ ومعلوم أنه لا بد أن يكون بائناً عن ذاته، قال: فإما أن يكون الله فوقنا وإما أن يكون محايزاً لنا وإما أن يكون تحتنا، والله منزَّه عن السفل وعن المشاكلة والمحايزة، فلم يبق من ضرورة العقل إلا أن يقال: إن الله فوق العرش).
ولهذا كان من فقهه وأدبه صلى الله عليه وآله وسلم مع ربه لما ذكر الدعاء: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، قال: وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) ولم يقل: واحفظني من تحتي.
قال شيخ الإسلام: (وهذا من أدب الأنبياء مع ربهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى منزَّه عن السفل، وإن كان محيطاً بكل شيء ولا يخفى عليه شيء؛ فإنه الباطن الذي ليس دونه شيء).