قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى): لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] الآية، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] الآية].
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف): قال الشارح في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)].
من أصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون على أحد من المسلمين بالكفر، ولا بالشرك ولا بالنفاق، إلا إذا تبين شيء من ذلك، يعني: توافرت شروط وقوع الكفر من الشخص وانتفت الموانع، وتوافر الشروط يزيد وينقص، أي: شروط وقوع الكفر بحسب حال الشخص، وبحسب الزمان وبحسب المجتهد.
فعلى هذا لا يتأتى لأكثر أفراد المسلمين أن يحكموا على أحد بالكفر؛ لأنهم ليسوا من أهل العلم، لأن شروط التكفير لا بد من إدراكها إدراكاً جيداً بفقه تراعى فيه قواعد الشرع، وتراعى فيه النصوص الشرعية، ويراعى فيه حال الشخص، ويراعى فيه أسلوب إقامة الحجة، ويراعى فيه معرفة إقامة الدليل وكيف يكون.
ثم لا بد أيضاً من معرفة تامة، فلا يمكن أن نحكم على معين إلا بعد أن تنتفي الموانع، فالإكراه قد يعذر به، والتأول قد يعذر به، والجهل قد يعذر به، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي لا يعرفها إلا أهل العلم.
ولذلك فإن مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التي يجب ألا يتناولها إلا أهل العلم، ويجب أن نفهم أنا لسنا متعجلين بها، وأن عامة الناس وكثيراً من طلاب العلم ليس عليهم أن يبحثوا عن أحوال الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول، ليس عليهم ذلك، بل هذه الأمور ترجع إلى أهل العلم الراسخين، وأنهم ما تعبدوا بإشهار الكفر وإعلانه، وأن الحكم بالكفر حكماً عاماً أمر يختلف عن الحكم على المعين اختلافاً كبيراً، فكثير من الأمور التي يكون فعلها كفراً، أو قولها كفراً، أو اعتقادها كفراً؛ لا يحكم على من فعلها بأنه كافر، ولذلك نجد أن السلف كثيراً ما يطلقون الكفر على الحالات والأقوال والاعتقادات، لكن يندر جداً حكمهم بالكفر على المعين.
أقول: يندر جداً، بل إن بعض الأئمة لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً حتى وقت اشتداد الأهواء وشدة أهل البدع وتسلطهم على المسلمين، فإنا لا نعرف من الأئمة من حكم على المعين إلا في حالة نادرة، وكثير من أئمة الهدى -وما أكثرهم- لم يؤثر عنهم تكفير المعين.
إذاً: المسألة خطيرة، فلا تجوز الشهادة من طائفة أو جماعة على المعين بكفر ولا بشرك ولا بنفاق إلا بعد معرفة الأصول الشرعية بذلك، وليس كلما يعرف يقال، فليس كل من تناول هذه الأمور يستطيع أن يصل فيها إلى الحكم بالكفر القاطع، وبعض الأشياء لا يحكم بها الفرد، إنما لا بد من توافر اجتهاد المجتهدين، خاصة في الحالات التي تتعلق بالمصالح الكبرى، وفي الأمور التي ينبني عليها الحكم على جماعات أو أفراد أو أمم أو مجتمعات.
وكذلك قوله: (لا نرى السيف على أحد من محمد صلى الله عليه وسلم) هذه قاعدة عامة، تشمل الأفراد والجماعات والولاة وغيرهم، فلا يجوز رفع السيف إلا فيما أباحه الله عز وجل.