في بداية هذا المقطع أحب أن أشير إلى أن الصلاة خلف أئمة المسلمين لها عند السلف أحكام تفصيلية، ذكر منها الشيخ ثمان صور أو تسع صور كل صورة لها حكم، ويمكن أن نوجز هذه الصور بما يلي: فالصلاة خلف الإمام تختلف في حكمها بين الصلاة خلف الإمام الأعظم -الخليفة أو السلطان، أو من ينوبه-وبين الصلاة خلف الإمام الذي دون ذلك.
فأكثر الأحكام التي توجب الصلاة مطلقاً خلف كل إمام براً كان أو فاجراً تتعلق بالصلاة خلف الإمام الأكبر، أو الإمام المعين من قبل السلطان والإمام الأكبر، فهذا لا يجوز ترك الصلاة خلفه بحال من الأحوال.
ثانياً: أن من لم يعلم عنه البدعة -وهو مستور الحال- تجب الصلاة خلفه أيضاً مطلقاً، والسؤال عن حاله أو الشك في الصلاة خلفه بدعة.
وكل هذه قطعيات ليس فيها إلا استثناءات نادرة جداً ينبغي ألا يعول عليها؛ لأن الاستثناءات ينبغي ألا تسبق القواعد، فتجب الصلاة خلف من لا يعرف عنه بدعة، وكذلك مجهول الحال، فضلاً عن أن يكون إماماً معتبراً هذا أمر بدهي.
ثالثاً: صاحب البدعة غير المغلظة، وكذلك صاحب الكبيرة -كالظالم والفاسق- إذا كان والياً من ولاة المسلمين، أو معيناً من قبل أئمة المسلمين تشرع الصلاة خلفه إذا كان صاحب بدعة غير مغلظة، أو فاسقاً أو فاجراً أو ظالماً، سواءً كان سلطاناً أو عينه السلطان، فالصلاة خلفه مشروعة وواجبة إذا ترتب على البحث عن غيره مفسدة.
وكذلك صاحب البدعة الذي لا يدعو إلى بدعته يدخل في هذا الحكم.
رابعاً: صاحب البدعة المغلظة إن كان سلطاناً يصلى خلفه، وللسلف قولان في كونها تعاد أو لا تعاد، والراجح: أنها إذا كانت مغلظة مكفرة صلى خلفه، ثم تعاد الصلاة سراً.
ولذلك قيل: إن بعض السلف كانوا يصلون خلف المأمون ثم يعيدونها؛ لأنهم يرونه صاحب بدعة مغلظة داعياً إلى بدعته؛ لأنه قال بخلق القرآن وانتصر لذلك ودعا إليه، فكان بعض السلف يصلون خلفه لأنه إمام المسلمين ثم يعيدون الصلاة.
وهذه المسألة خلافية، ومبنى الخلاف على أن هناك من قال بأن المأمون لا يكفر بفعله؛ لأنه ملتبس عليه الأمر، والالتباس في تصرفاته واضح، يعني: لم يكن جازماً، وبعضهم يقول بأنه متأول، والمتأول لا يكفر وإن كانت بدعته مكفرة، فإذا كان كذلك فالأولى عدم إعادة الصلاة خلفه.
فإن قيل: ما الفرق بين ابن أبي دؤاد وبين المأمون وبدعتهما واحدة؟ ف
صلى الله عليه وسلم أن ابن أبي دؤاد جهمي معتزلي خالص، والمأمون كان معتزلياً في هذه المسألة، وليس في أصول المعتزلة كلها، فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بالتوحيد، ولا يقول بالعدل، وإنما كان يقول بخلق القرآن، ومع ذلك كان متردداً، حتى إنه رجح قول المعتزلة ترجيحاً، لكن أثناء المناظرات ظهر تردده والتباس الأمر عليه، فهو متأول، ففرق بين المأمون وابن أبي دؤاد، فـ ابن أبي دؤاد رأس ضلالة ورأس بدعة ومعتزلي خالص، وكان جهمياً تالفاً.
أما المأمون -وإن كان مبتلى بهذا الكلام عفا الله عنا وعنه- فإنه مع ذلك إمام المسلمين ومن أهل السنة، وليس بدعياً خالصاً، بمعنى: أنه لا يعد من أهل الاعتزال الخلص، ولا من الجهمية الخلص.
وقد كان الإمام أحمد يستغفر للمأمون، ولاشك أن الإمام أحمد عامل المأمون على أنه إمام مسلم ويجب عليهم السمع والطاعة له، ويصلى خلفه، هذا مما لا شك فيه، ومن خالف في شيء من هذا فلا يعني أنه خالف في الأصل، فالأصل عند أهل السنة واضح.
خامساً: أن صاحب البدعة وصاحب الكبيرة إذا لم يكن سلطاناً أو معيناً من قبل الولاة؛ فإن وجد من هو أفضل منه فيجب العدول عنه إلى الأفضل، ما لم يترتب على ذلك مفسدة.
ففي أحيان كثيرة يكون الإمام عادياً يختاره جماعة، ولا تعلم السلطة، كما يحصل في بعض البلاد الإسلامية، فهذا هو الذي يجب فيه العدول عن المفضول إلى الفاضل.
وفي واقع حالنا الآن أغلب الأئمة يعينون من قبل جهة رسمية، فلا بد من اعتبار ذلك، فهم معينون من قبل ولي الأمر؛ لأن تعيين الإمام يكون من قبل الجهة المختصة من الوزارة المختصة بالمساجد ووزارة الشئون الإسلامية، وعلى هذا فأغلب الأئمة المعينون من قبل ولاتهم لا يتأتى العدول عن واحد منهم إلا بالتفاهم مع الجهات المسئولة، لكن الشخص إذا لم يرغب في الائتمام بأحدهم فهناك مساجد كثيرة، يعني: لا حرج عليه إذا رأى كبيرة ظاهرة في إمام من الأئمة أن يعدل عنه إلى إمام آخر ما لم يترتب على ذلك فتنة، فهذا أمر عادي ليس فيه حرج، لكن ليس لأحد أن ينصب دون ولاة الأمور، فما دام هناك جهات مسئولة فلا بد من الرجوع إليها.
ونحن نعلم أنه -بحمد الله- في هذا البلد يختار الأئمة بشكل جيد، ويندر أن يكون في بعضهم الصفات المحذورة، فلا بدع ولا كبائر، إلا النادر والنادر لا حكم له.