قال رحمه الله تعالى: [ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع].
أهل البدع على اختلاف طوائفهم يخالفون أهل السنة في هذه المسائل، وأشهر من خالف أهل السنة هم الخوارج والمرجئة كما ذكرت سابقاً.
فالخوارج يزعمون أن الولاية والعداوة لا تجتمع في شخص، وأن من نقصت ولايته لله عز وجل فإنه لا يستحق رحمة الله سبحانه ولا يكون من المؤمنين، ومن هنا جعلوه كافراً، فحكموا بخلوده في النار في الآخرة، كما أنهم عادوه وجعلوه عدواً خالصاً، وأنزلوا عليه أحكام الكافرين، بل يعادونه أشد مما يعادون الكافرين، ولذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، ففي الحديث الصحيح: (يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)؛ لأنهم يرون أن من نقصت ولايته بارتكاب ذنب انتفت عنه الولاية الكاملة، ووجدت له العداوة الكاملة.
ويقابلهم المرجئة، وهم الذين لا يعولون على العمل الصالح أبداً، يقولون: كل من صدق بالله عز وجل -وبعضهم يقول: من صدق وأقر بلسانه، وبعضهم يقول: من عرف الله- فله الولاية الكاملة مطلقاً؛ لأن الولاية لا تتجزأ.
فالفريقان يقولان بأن الولاية لا تتجزأ، فكما أن الإيمان عندهم لا يتجزأ فلا يزيد ولا ينقص، كذلك الولاية والعداوة عندهم لا تزيد ولا تنقص.
والحق الذي عليه إجماع السلف، والذي قرره الكتاب والسنة أن كل مؤمن وكل مسلم له من الولاية بقدر ما فيه من الخير والإيمان والصلاح، ومن العداوة بقدر ما فيه من التجاوز والانحراف والمعصية، ما لم يأت بما يوجب الردة، فإذا أتى بما يوجب الردة فله العداوة الكاملة كالكافر الخالص، فالكفار الخلص لهم البراء الكامل، ولا تجوز ولايتهم في شيء، كاليهود والنصارى والمشركين والمرتدين، هؤلاء لهم العداوة الكاملة، ولا تجوز ولايتهم في شيء، لا الولاية الدينية ولا الدنيوية التي يفضلون فيها على المؤمنين، ونحو ذلك مما ذكره أهل العلم من صور الولاية، فلا يجوز للكافر أي نوع من أنواع الولاية التي تؤدي إلى الموادة.
وكذلك المؤمن المتقي الصالح له أيضاً الولاية الكاملة، حتى وإن أتى ببعض اللمم، فإن هذا لا ينقص حقه في الولاية، إنما الذي ينقص الولاية هو الكبائر والذنوب العظيمة.
أما ما بين هذين الحدين فإنه يتفاوت بقدر عمل كل مسلم، فكل مسلم له من الولاية بقدر ما فيه من الخير والطاعة والصلاح والاستقامة حتى وإن قلت، وله من البراء والعداوة بقدر ما فيه من المعصية والبدعة، وهذا يعني: أن البراء والعداوة لا يوجهان للشخص نفسه، بمعنى أن ينبذ نبذاً كاملاً، وإنما يكره فيه الشر وتكره فيه المعصية، ولا يتولى فيها أو ينصر عليها إلى آخره، فالولاية والعداوة والولاء والبراء لها تفاصيل في الأحكام.
فالبراء الجزئي لا يعني النبذ الكامل، كما أن الولاية الجزئية لا تعني القبول الكامل للشخص، ولذلك يجتمع في أكثر المسلمين وأكثر المؤمنين الولاء والبراء؛ لأن الصالحين منهم قلة؛ ولأن الذين يقعون في الردة -نسأل الله العافية- قلة، فيبقى أكثر الناس في وسط، وإن كانوا يتفاوتون أيضاً بحسب أعمالهم وبحسب مظاهر الصلاح فيهم.
وعلى هذا فإن ولاية المسلم إنما تتعلق بما يظهر منه، ولا يجوز أن نفتش عما في القلوب أو نمتحن الناس، كما يفعل كثير من الذين عندهم قلة فقه في هذه المسألة، فيقول: أنا لا أتولى مسلماً حتى أتثبت من دينه، أو: حتى أمتحنه، فهذه بدعة؛ إذ الأصل ثبوت الولاية للمسلم بمجرد أن تعرف أنه مسلم، وإن ظهر لك منه شيء من البدع والمعاصي، فتكره فيه هذه البدع والمعاصي وتتبرأ منها ومن فعله لها، لكنه يبقى له من الولاية حقه لكونه مسلماً.
ويلحظ أن الشيخ عد بعض الأحناف الذين يقولون بالإرجاء، عدهم في هذه المسألة من أهل السنة، وهو يقصد أن المرجئة يقولون: إن الولاية في أصلها لا تتجزأ، ولا تزيد ولا تنقص، لكن تتجزأ فيما يضاف إليها أو تزيد فيما يضاف إليها من الأعمال الصالحة، فقولهم في الولاية والبراء كقولهم في الإيمان، فكما قالوا بأن الإيمان هو التصديق، قالوا بأن الولاية هي مبدأ المحبة.
وفي الحقيقة قد يكون الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في مسألة الولاية والبراء أخف من الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وفي مسألة حقيقة الإيمان، لكن مع ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق أن الخلاف لفظي من كل وجه؛ فإن كثيراً من المرجئة قد لا يهتم بمسألة المعاصي والكبائر، وربما بعضهم يبقى عنده أصل الولاء الكامل للمسلم وإن كان عنده شيء من المعاصي.
فقوله: إن الخلاف لفظي فيه نظر، وإن كان ليس كالنزاع في مسألة الإيمان، فهو أخف بكثير ولا شك.