قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد].
يقصد بالنظار: الفلاسفة والمتكلمين الذين أخذوا بالقواعد العقلية الفلسفية في تقرير التوحيد، وكثيراً ما يطلق عليهم النظار؛ لأنهم ينظرون لهذه الأمور العقلية ولأمور العقيدة بمجرد هذه القواعد العقلانية البحتة.
قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب؛ فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول؛ فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر رحمة من الله بخلقه.
والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها.
والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه].
يقصد بقوله: [وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها] أن هناك من البدهيات العقلية والفطرية ما لا يحتاج إلى استدلال، إنما تكون هي بنفسها أدلة، فمثلاً: من البدهيات أن الخلق لابد له من خالق، ومن البدهيات أن هذا الخالق سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف وهو الرازق وهو الذي يحيي ويميت، فهذه البدهيات هي التي يستدل بها على الأمور الأخرى من مستلزماتها، كعبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسله واتباع شرعه.
فيستدل بكون الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض وكونه هو الذي يحيي ويميت، وكونه هو الذي خلق البشر، يستدل بهذه الأمور على أنه هو وحده المعبود.
إذاً: فالبدهيات الضرورية لا تحتاج إلى أدلة، إنما هي تكون أدلة على غيرها، وهذه هي قاعدة القرآن، لذلك نجد أن القرآن ليس فيه تكلف في الاستدلال على وجود الله تعالى، إنما نجد أكثر ما فيه من البراهين الاستدلال على ضرورة عبادة الله وحده، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة، وقرر هذه الأدلة على أنها بدهية عند البشر حينما سألهم: من خلق السموات والأرض، ومن خلقهم؟ من يرزقهم؟ فقرر أنهم يقولون: إنه الله، ثم بعد ذلك استعمل هذه الأمور دليلاً على غيرها وعلى مستلزماتها، وهي عبادة الله وحده، وعدم الشرك، وأنه ما دام الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت، وهو خالق السموات والأرض؛ فإذاً: لا يجوز أن يعبد غيره، ومن عبد غيره فقد أشرك.