قال رحمه الله تعالى: [وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقبل إلا ذلك، ولا يقبل إيمان المخلص! وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد.
فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بـ (لا إله إلا الله) حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به.
فانتظمت التوحيد، وإذا ضمت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله إثبات التوحيد، ومن شهادة أن محمداً رسول الله إثبات الرسالة.
وكذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر -كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) - كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه.
وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]؟ ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة؟ فمن أثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله.
ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمناً.
قال: أو مسلماً؟! قالها ثلاثاً)، فأثبت له اسم الإسلام، وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق.
وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] على ترادف الإسلام والإيمان فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا موصوفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.
والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة رضي الله عنه! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: بم أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!].
هذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله كان يعتني بالنصوص الشرعية، لكن قد يحدث أحياناً شيء من سوء الفهم أو تشرب لبعض الأقوال التي تلتبس حتى على العالم الكبير مثله، أقول: فلاشك أن أبا حنيفة رحمه الله رجاع للحق، ويؤثر عنه أنه رجع عن الإرجاء بالكلية، وإن لم يرجع فإن قوله لا شك أنه مخالف لأهل السنة والجماعة، لكن هذا لا يقدح في أمانته وفي قدره كما هو معروف في ميزان أهل السنة والجماعة، فهو لا يوافق على زلته إن كان مصراً على القول بالإرجاء، لكن نظراً لإمامته ونظراً لعلمه وتقواه وصلاحه وقبوله عند عامة المسلمين يبقى له قدره من الإمامة والعلم والاعتبار، والراجح أنه لم يقل بجميع أقوال المرجئة التي شنعها السلف.
وفي المقطع التالي أحب قبل أن يبدأ أن أشير إلى مسألة مهمة، فهو سيتكلم عن ثمرات الاختلاف بين الناس في مسألة الإيمان والإسلام، وهي فرع عن الاختلاف في مسمى الإيمان، فإذا كان هناك ثمرات فهذا دليل على أن الخلاف بين أهل ال