قال رحمه الله تعالى: [فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه نظرنا في كلام الشارع كيف ورد فيه الإيمان؟ فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام.
ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان، فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] الآيات].
هنا استأنف الاستدلال، لكنه بشكل غير واضح، ففي هذه الآية دليل لأهل السنة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه فسره بالعمل.
قال رحمه الله تعالى: [قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: (جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها).
وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب.
وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)].
هذا من أصرح الأدلة وأقواها دلالة على قول أهل السنة والجماعة، ثم إنه من الأحاديث التي حار فيها كثير من المرجئة؛ لأنه فسر الإيمان بصراحة بأعمال صالحة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس، فهذا دليل قاطع على أمرين: على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان دخولاً أولياً، بل هي تفسير له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بهذه الأمور، فهي داخلة فيه، ليس على سبيل الاستلزام ولا على سبيل الشرطية، بل على سبيل التضمن، فالإيمان متضمن للأعمال، لأن تفسير الإيمان بالعمل بهذا الحديث تفسير صريح قاطع، وهو حديث صحيح، وتكرر بأسانيد وبألفاظ أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا اللفظ الذي أخرجه البخاري ومسلم وكثير من أهل السنة.
كما أنه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الأمور تزداد عند بعض الناس وتنقص عند بعضهم، فهم في شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يتفاوتون في العمل بها والنطق بها والتزامها قولاً وعملاً، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس من المغنم.
فهذه الأعمال من الأعمال التي يتفاوت فيها العباد، فتفاوتها دليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان.
وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟! فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود، وفي المسند عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية والإيمان في القلب)، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان].