قال رحمه الله تعالى: [وقالوا: إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان، وعلمنا من مراده علماً ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام ولا أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول معادياً له يقاتله؛ أن هذا ليس بمؤمن، كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)].
هذا الدليل من أقوى أدلة أهل السنة والجماعة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان شعباً، وجعل هذه الشعب تشمل الأعمال القلبية وغير القلبية، وأعمال الجوارح، بل إن الشعب بدأت بعمل اللسان، وانتهت بعمل الأركان، فقول لا إله إلا الله، وإماطة الأذى مثالان متعلقان بالعمل، ومع ذلك سماهما إيماناً، وهذا دليل قاطع بين على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبين ولا ينطق عن الهوى، ولسانه أيضاً عربي، ولا يتكلم إلا بما يفهمه المخاطبون العرب، ولا يمكن أن يكون في لفظه وكلماته إيهام، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الألسنة بالعربية، فلا يمكن أن يرد احتمال باضطراب الكلام أو اضطراب اللغة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى هذه الأعمال إيماناً، وقال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها) أي: أفضل ما سماه الإيمان (قول لا إله إلا الله، وأدناها) أي: أدنى ما سماه الإيمان (إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه الأمثلة كلها أعمال.
قال رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (البذاذة من الإيمان)].
الخلق كثير منه أعمال، والبذاذة ترجع إلى التواضع، يعني: عدم التكلف في اللباس، وهذا عمل.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى إيمانا؛ فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة، والصوم، والحج، والأعمال الباطنة؛ كالحياء، والتوكل، والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى، وكما أن شعب الإيمان إيمان فكذا شعب الكفر كفر، فالحكم بما أنزل الله -مثلاً- من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله كفر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم، وفي لفظ: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، ومعناه -والله أعلم-: أن الحب والبغض أصل حركة القلب، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس، والبدن متوسط بين القلب والمال، فمن كان أول أمره وآخره كله لله كان الله إلهه في كل شيء، فلم يكن فيه شيء من الشرك، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه، فيكون مستكملاً الإيمان، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل، ويأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم: (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) فسمى حب الصحابة إيماناً وبغضهم كفراً.
وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره عن استدلالهم بحديث شعب الإيمان المذكور وهو: أن الراوي قال: بضع وستون أو بضع وسبعون، فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الشك في ذلك! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب].
أبو المعين النسفي من شيوخ الماتريدية، والماتريدية مرجئة، وكثير من أهل الكلام المتأخرين من الماتريدية والأشاعرة إذا عارض الحديث أصولهم ذهبوا إلى الطعن في الحديث بأي وسيلة، فاستهدفوا إما الرواة وإما الكلام في متن الحديث، أو ذهبوا إلى أنه خبر آحاد إذا كان خبر آحاد ونحو ذلك، وهذا منهج منتشر في الأشاعرة والماتريدية، وليس هو من منهج الأولين.
قال رحمه الله تعالى: [فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب، فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه: (بضع وستون) من غير شك،