قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق].
هنا بدأ يذكر ردود أهل السنة والجماعة، لكنه ذكرها ذكراً فيه ضعف وإجمال.
قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق بمنع الترادف بين التصديق والإيمان].
يقصد بهذا أن السلف حينما قال لهم المرجئة بأن الإيمان في اللغة هو التصديق قالوا: نعم إن الإيمان قد يدل لغة على التصديق، لكن ليست الكلمتان مترادفتين من كل وجه، فالترادف ممنوع، أي أن الإيمان أوسع من التصديق من الناحية الشرعية، فلا تحتجوا علينا -أيها المرجئة- بكون العرب تسمي الإيمان تصديقاً، وتسمي التصديق إيماناً؛ لأن هذا ترادف من بعض الوجوه، وكل الكلمات العربية المترادفة لا تترادف من كل وجه، ولا تتطابق من كل وجه، لكن تتطابق في أغلب معانيها أو في بعض معانيها، وكذلك كلمة (تصديق) و (إيمان) لا تترادفان من كل وجه، بل كلمة (إيمان) أوسع من كلمة (تصديق) من بعض الوجوه، فالإيمان الشرعي يشمل التصديق وزيادة، كما أن الصلاة تشمل الدعاء وزيادة، وكما أن الصيام يشمل الإمساك وزيادة، وهكذا.
قال رحمه الله تعالى: [وهب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم: إنه يوجب الترادف مطلقا؟! وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان، ومما يدل على عدم الترادف أنه يقال للمخبر إذا صُدق: صدقه، ولا يقال: آمنه ولا: آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83]، وقال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر، ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدق لنا؛ لأن دخول اللام لتقوية العامل، كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل اسم فاعل أو مصدراً على ما عرف في موضعه، فالحاصل: أنه لا يقال قط: آمنته، ولا صدقت له، وإنما يقال: آمنت كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ (أقررت) أقرب من تفسيره بـ (صدقت) مع الفرق بينهما؛ ولأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدقت، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له؛ فإن فيه أصل معنى الأمن، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع؛ ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفره أعظم، فعلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب؛ فكذلك الإيمان يكون تصديقاً، وموافقة، وموالاة، وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان].
خلاصة هذا الكلام: أن الدليل على أن الإيمان ليس هو التصديق فحسب: أنه في لغة العرب لا يقابل الإيمان التكذيب، بل الذي يقابل الإيمان هو الجحود، والذي يقابل التصديق هو الكذب، فإذا قلتم: إن الإيمان هو التصديق فمعنى هذا أن ضد الإيمان هو الكذب وليس الكفر، وهذا لا يستقيم، وما دمنا قلنا: إن الكفر ضد الإيمان فهذا يعني أن الإيمان له معنى زائد عن مجرد التصديق؛ لأن التصديق يقابله التكذيب في المعنى اللغوي المباشر.
فهم قصروا الإيمان على معنى ضيق من معانيه، فقال لهم السلف: إن الذي ضد التصديق لغة هو التكذيب وعلى هذا ما أدخلتم الكفر وإن كان التكذيب يتضمن الكفر، لكن الكلام على المدلول اللغوي، فإذا قلتم بأن الإيمان هو التصديق فما تقولون في أن العرب يجعلون مقابل الإيمان الكفر والجحود؟! فهذا يجعلكم تضطربون في الوقوف على المعنى الغوي الذي هو التصديق فقط.