كأن الشارح يرد على الذين قالوا بالمبالغة في إثبات توحيد الربوبية، هذا هو المقصود بهذا الكلام، فطوائف المتكلمين -ولا يزالون إلى اليوم- غاية ما عندهم في تقرير التوحيد أن يثبتوا أن الخالق موجود وأن الخالق واحد، وهذه بدهية، فالعوام كفوهم هذا، فكل إنسان يدرك أن الخالق واحد وأن الرب واحد، لكن المشكلة التي فيها النزاع بين البشر منذ أن بدأ الشرك إلى يومنا هذا هي أن الناس يعبدون مع الله غيره، هذه هي المشكلة، وليست المشكلة أنهم لا يعترفون بوجود الله، وليست المشكلة أنهم لا يعترفون بأن الله هو الخالق وحده، فالمشركون أخبر عنهم الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنهم إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض؛ يقولون: الله، وما ورد في القرآن أنهم أنكروا أن يكون الله هو الخالق، والله سبحانه وتعالى هو العليم بأحوال البشر، وهو الذي حكى لنا أحوالهم في القرآن، فالمشركون لم ينكروا توحيد الربوبية من أجل أن تتعب فيه عقول المتكلمين، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا غاية ما يريدون الوصول إليه إثبات الخالق، ومع ذلك عندهم شك في إثبات الخالق وهم لا يشعرون؛ لأنهم يثيرون من الشبهات ما يقتضي الشك، لكنهم ينسون التوحيد المهم الضروري الذي لتقريره ثمرة، وللقول به فائدة، ولنصح الأمة فيه فائدة، وهو توحيد الإلهية وتوحيد العبادة، فلذلك أغلب المتكلمين لا يعرفون توحيد الإلهية ولا توحيد العبادة، ويستنكرونه على أهل الحق إلى يومنا هذا، وهذا هو السبب في استنكار كثير من المسلمين الذين يذهبون مذاهب المتكلمين على الذين ينكرون على المسلمين الشركيات وينكرون البدع، سبب هذا أنهم يعرفون أن غاية التوحيد توحيد الربوبية، وأن هذه الشركيات إنما هي ممارسات سهلة يمكن حلها فيما بعد.
فمنشأ التساهل -حتى عند كثير من الدعاة والدعوات المعاصرة- في توحيد الإلهية أنهم تربوا على أن التوحيد هو توحيد الربوبية، هكذا عرفوا، فلذلك يعدون الشركيات من الأمور اليسيرة التي يمكن أن يصبر عليها أو يسكت عنها حتى تحل مشكلات المسلمين السياسية وغيرها، وتحل مشكلة انحراف البشر في الربوبية، وهذا خطأ؛ لأنه خلل عظيم.
وما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الشارح ذكر أنه لا يقول أحد بأن للعالم صانعين، وإنما القول الذي ورد أن الثنوية من المجوس والمانوية وغيرهم قالوا بأن للخير إلهاً وهو الخالق الأول، وأن للشر إلهاً آخر وهو خالق الشر، وهذا المبدأ هو نفسه الذي قالت به المعتزلة، لكن بطريقة مهذبة، فهذا هو رأي القدرية، والقدرية نشأت في بيئة المجوس، القدرية في الإسلام نشأت في بيئة المجوسية، وتكونت من المجوس الذين اندسوا في المسلمين، وربما يكون كثير منهم أظهر الإسلام وأبطن الكفر، فدسوا على المسلمين هذه العقيدة، فلذلك قالت المعتزلة بأن الله هو خالق الخير، ولا يليق بالله أن يخلق الشر، فالشر من الإنسان، وهي نفس الفلسفة التي قال بها الثنوية وقامت عليها عقيدة القدرية الأولى ثم قدرية المعتزلة، قالوا بأن الله هو خالق الخير وهو مقدر الخير كله، لكن لا يليق بالله أن يخلق الشر ولا أن يقدره، إنما الإنسان هو الذي كسب الشر وفعله وخلقه، فقالوا: إن الإنسان هو خالق أفعاله، وظنوا بذلك أنهم ينزهون الله، وهذا غلو في التنزيه، بل بهذا قدح في علم الله وقدرته.