القاعدة السادسة: أنه يجب أن نفرق -كما كان السلف- بين الحكم بالكفر وبين تكفير الأعيان والأشخاص والهيئات وغيرها، فطريقة السلف أنهم يقررون الأحكام، فيقولون: الأمر الفلاني كفري، والقول الفلاني كفري، والاعتقاد الفلاني كفري، فهذا يكفر به من قاله، وهذا يكفر به من اعتقده، وهذا يكفر به من فعله، وذاك ليس كذلك، إلى آخره.
هذه بالنسبة إلى الأحكام، لكن تطبيق الأحكام على الهيئات والأشخاص والمؤسسات والجماعات ونحوها له أسلوب آخر لا يلجأ إليه إلا في الحالات النادرة وعند الضرورة، ولذلك تجد كلام السلف في أحكام التكفير كثيراً جداً جملة وتفصيلاً، لكن كلامهم في الأعيان تجده قليلاً جداً، حتى إن بعضهم كان يتردد في تكفير من تبين كفره عند عموم الأمة، وقليل من أهل العلم من كان يطلق التكفير، خاصة أهل العلم الكبار، ككبار الصحابة، بل كل الصحابة، فالصحابة واجهوا أهل البدع وما كفروهم، حتى أولئك الذين قاتلوا الخوارج، وأول خصم وأشد خصم على الخوارج هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لما قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.
وكذلك سائر الصحابة لما واجهوا القدرية، ولما واجهوا أقوال كثير من الشيعة وغيرهم، فإنهم كانوا يترددون في تكفير الأعيان والأشخاص، أما التكفير بالأحكام فأمره واضح وسهل، بأن يقال: من فعل كذا فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من اعتقد كذا فهو كافر، فهذه مسألة سهلة؛ لأنها حررت علمياً عند السلف، لكن السلف يفرقون بين هذا وبين إطلاق الأحكام على الأشخاص، ولذلك -كما قلت- تجد كبار أهل العلم من الصحابة إلى يومنا هذا يندر عندهم التكفير، بل بعضهم لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً مع أنه لا تنقصه عقيدة الولاء والبراء، ولا تنقصه الغيرة على دين الله عز وجل، كالإمام أحمد رحمه الله، فما كفر إلا في حالات نادرة جداً أقام الحجة فيها بنفسه، كتكفيره من قال بخلق القرآن؛ لأنه علم يقيناً أن الحجة قامت، وأن شروط الكفر توافرت، وأن موانع التكفير منتفية، فأطلق الكفر بعد ذلك، أما فيما عدا ذلك فإنك تجد الإمام أحمد تورع كثيراً عن إطلاق الكفر حتى فيمن كفرهم السلف قبله.
وأقول: الخلل الحاصل الآن عند كثير ممن يدعون العلم هو سرعة تطبيق الأحكام على الأعيان، فينزل الدليل على القضية مباشرة، فيكفر الشخص، مع أنا نعلم يقيناً أنه ما توافرت عنده شروط التكفير، ولا اجتهد في معرفة ما يعارض إطلاق التكفير من الموانع الشرعية المعروفة، مثل: الإكراه، ومثل: التأول، ومثل: الجهل، وغير ذلك مما هو معروف ويحدث عند كثير من المسلمين في بعض العصور والأمكنة والأزمان.
وعلى هذا فإن تكفير الأشخاص وتكفير الأعيان وتكفير الهيئات وتكفير الجماعات وتكفير الدول أمر خطير يجب ألا يسود بين الناس، ويجب أن يترك لأهل العلم الراسخين، وإذا أدرك بعض طلاب العلم أن هذا الأمر بدأ يظهر بكثرة الثرثرة في هذه الأمور وجب عليهم أن يناصحوا الناس وأن يعظوهم في ذلك وأن يذكروهم بتقوى الله عز وجل، فلا يتحدث في هذه الأمور بغير علم، وأغلب ما يتكلم فيه الناس الآن عواطف بناء على الشائعات بدون تثبت وبدون معرفة لهذه الأحكام التي أشرت إليها.