وربما يقول قائل: لماذا الكلام عن التكفير الآن؟ فأقول: أولاً: لأنه كثرت الحاجة إلى الحديث عن التكفير؛ حيث ظهر في طوائف من أبناء المسلمين -وإن كانوا قلة- نزعات التكفير، وهذا أمر خطير على الإسلام والمسلمين عموماً، ثم على أهل الخير وطلاب العلم والدعاة والمتدينين على وجه الخصوص، ثم إنه من بواعث الفتنة في أي مجتمع تحدث فيه هذه النزعات، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه ليس صحيحاً أن الكلام لم يكن إلا في هذه المناسبة أو في هذه الظروف، بل قد مرت مناسبات كثيرة من المناسبات التي تستدعي الحديث عن التكفير والتحذير من بواعثه ومن نزعاته وضرورة نصح المسلمين فيه وشباب المسلمين خاصة، وهذا أمر ضروري تقتضيه نصوص الشرع.
ثم إنا نجد من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمواجهتهم للبدع والمشكلات أنهم واجهوا قضية الخوارج -التي هي قضية التكفير- بقوة لم يواجهوا بها غيرها من البدع.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأهواء جملة، وذكر الخوارج الذين هم أصل التكفير تفصيلاً، وحينما ذكر أهل الأهواء حذر منهم وأمر بجهادهم بالرد عليهم ونحو ذلك، لكنه خص الخوارج بوجوب قتالهم، وقد يقول قائل: لماذا الخوارج؟ وهل الخوارج أخطر عقيدة؟!
و صلى الله عليه وسلم لا، بل هناك ما هو أخطر من عقائد الخوارج، كالرافضة والباطنية والجهمية وغيرهم، لكن -كما ذكر أهل العلم، واستقرأ هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه- لكون الخوارج أكثر فساداً في الأرض؛ لأنهم أناس يواجهون المسلمين بالقوة والسيف؛ ولأنهم من طبائعهم أنهم لابد من أن يهلكوا أو يهلكوا، فمن ينزع نزعة الخوارج أو ينزع نزعة التكفير لا يعيش بين الناس مستريحاً، بل إما أن يؤذي الناس ويقاتلهم ويفعل كل ما يخل ويفسد، وإما أن يقضى عليه، فلذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب قتال الخوارج ووعد من قتلهم.
ولذلك فرح الصحابة لما تحققوا أن الخوارج الذين قتلوهم في النهروان هم الذين وعد النبي صلى الله عليه وسلم من قتلهم بأن له الجنة، وفرح الإمام علي رضي الله تعالى عنه بذلك فرحاً شديداً، وكان الصحابة إذا سمعوا بالخوارج هبوا لقتالهم، ولما سمعوا بالقدرية حذروا منهم، مع أن القدرية أكفر من الخوارج، فالخوارج ما كفروا كلهم، ولا قيل بكفرهم، لكنهم مع ذلك أمر بقتالهم، والصحابة قاتلوهم واستبشروا بقتالهم وفرحوا بذلك، وكانوا كلما ذكر لهم فئة خارجية يهبون لقتالها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ظهر الشيعة جادلوهم بالكلمة وأقاموا عليهم الحجة، ثم لما سمعوا بالقدرية كذلك جادلوهم بالكلمة وأمروا بهجرهم حتى أصر بعض رءوسهم من أهل البدع، فكانوا يأمرون بقتل الرءوس فقط، هذا أمر.
الأمر الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في نصوص أخرى خوارج يأتون بعد الخوارج الأولين، من ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنه (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية) إلى أن قال: (فإذا لقيتموه فاقتلوهم فإن لم قتلهم الجنة).
ولا أعرف أن هناك فئة ظهرت من الخوارج الآن ما عدا التكفير والهجرة، وقد انقرضت، لكن سمات الخوارج بدأت تظهر، وأول سمات الخوارج التكفير، والتكفير وجد عند فئات من أبناء المسلمين وإن كانت قليلة والحمد الله.
فأغلب أبناء المسلمين على الرشد -إن شاء الله- وعلى الاستقامة، ولاشك أن سائر شبابنا -والحمد الله- فيهم تعقل وفيهم علم وفيهم فقه، لكن يوجد شذوذ في طوائف من الشباب، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وكم يجر الشذوذ على الأمة في دينها ودنياها إذا أهمل من وبال على أهل الخير خاصة وسائر المسلمين عامة، وشواهد ذلك بدأت، إذاً: لماذا ينزعج بعض الناس من الحديث عن نزعات التكفير ونحن نراها ونسمعها فعلاً؟! فأنا أعلم أن نزعات التكفير موجودة فعلاً، وتزداد الآن، وأن بعض طلاب العلم والمشايخ الذين يعرفونها يحاولون علاجها، وبعضهم ربما يتردد في العلاج ظناً منه أنها لن تصل إلى حد الخطورة، وأقول: إنها وصلت إلى حد الخطورة، وحوادث التفجير ونحوها دليل ذلك.
فكل حوادث العنف والقوة تنتج عن هذه النزعات، سواء أكانت تكفيراً خالصاً أم استعداداً للتكفير أم براءة من المخالفين، أم استباحة لوسائل العنف، كلها ترجع عاجلاً أو آجلاً إلى التكفير، فمن هنا أقول: إن سمات التكفير ظهرت، وسمات الخوارج ظهرت بنزعات في أفراد وفي جماعات وفي اتجاهات، فإذا ظهرت فلابد من الحديث عنها، وأرى أنه لا يسع طلاب العلم السكوت، بل لابد من التحذير حتى لا يقع كثير من شبابنا الذين لم ينهلوا من العلم الشرعي بقدر كاف، والذين تحكمهم العواطف وقلة التجربة وعدم الرجوع إلى الراسخين في العلم في التكفير من حيث يشعرون أو لا يشعرون.