قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)].
هذه العبارة تحتها كثير من القواعد وكثير من الفرعيات والأصول أيضاً التي تحتاج إلى توجيهها، لاسيما أن مسألة التكفير في عصرنا من المسائل التي عمت بها البلوى، وابتلي بها بعض المنتسبين إلى الإسلام، وسأعرض هنا بعض القواعد الهامة وأترك البقية والتفصيل إلى درس لاحق، لكن نظراً لأهمية الموضوع أحب أن أهيئ الأذهان ببعض المسائل حول التكفير، فأقول: أولاً: إن أغلب الذين يخوضون الآن في التكفير يخوضون بغير علم، فلا يحيطون بالنصوص ولا بقواعد الشرع ولا بأقوال السلف ولا بأحوال الأمة وتنزيل الأحكام عليها، وأكثرهم من المتعالمين المغرورين الذين ليس عندهم إلا التعالم.
ثانياً: أن مسألة التكفير من المسائل التي تعد أول ما افترقت فيه الأمة؛ لأنها نوع من التنطع في الدين، والتنطع في الدين قد لا ينتبه له الناس؛ لأن صاحبه في الظاهر ينشر الصلاح والاستقامة، والناس بفطرتهم وبحبهم للإسلام يحبون الصلاح والاستقامة، فقد يغفلون عن نزاعات التشدد ونزاعات التنطع في الدين التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن التكفير لا يصح أبداً أن يتناوله كل الناس ولا طلاب العلم، فتكفير الأعيان لا يتناوله إلا العلماء الراسخون.
وأحكام التكفير من حيث هي مذكورة في الكتب، وليس لأحد فيها فضل، لكن تنزيل الأحكام على الأشخاص أمر لا يمكن أن يتأتى إلا بجهود متضافرة من أهل العلم، والتكفير له شروط وضوابط، وله محاذير، وله أصول لابد من أن يطبقها أهل العلم، وقد تنطبق في عصر ولا تنطبق في عصر آخر، وتقال في ظرف ولا تقال في ظرف آخر؛ لأحوال الناس، فقد يكون في ظرف من الظروف أحوال المسلمين كلها استثنائية، كأن يكون عند المسلمين شيء من الإعراض والجهل والبدع والتخلف والبعد عن فقه دين الله عز وجل، وقد يكون الأمر ليس كذلك، كما في عهد السلف، حيث كان الأمر بيناً والحجة ظاهرة، ولا يزيغ أو يخرج إلى التكفير إلا إنسان تعمد خرق القواعد، إذاً: هذه المسائل يجب ألا يتناولها إلا الراسخون في العلم.
الأمر الرابع: وهو مهم جداً، وبه افتتن كثير من الشباب، وهو ما يظنه بعض الناس من أن تكفير الناس أمر في ذمته، وأنه ما لم يخرج هذه العهدة من ذمته فلن يعيش سعيداً بين الناس، وهذا غير صحيح، وكأنه لا يمكن أن يتم دينه حتى يكفر من يكفر، وهذه مزلة خطيرة جداً تجعله لا يرجع إلى العلماء ويستعجل ويتهور.
خامساً: أن التكفير أغلبه يبدأ بلوازم قبل أن يكون تكفيراً صريحاً وهذا هو بيت القصيد، فالتكفير أحياناً يبدأ على شكل نوازع وانطباعات وآراء ووجهات نظر يتساهل فيها العلماء وطلاب العلم، ثم تنمو حتى توصل إلى التكفير الضيق، ثم يتوسع التكفير، وأقصد بذلك أنه من بذور التكفير الحكم على القلوب والنيات، والاستعجال في إطلاق الأحكام قبل إقامة الحجة والأخذ بأصول العذر ونحو ذلك، ثم بعد ذلك الأخذ باللوازم.
ولذلك تجد أن التكفير أول ما يبدأ بمثل هذه الظنون، ثم بعد الظنون يبدأ بتكفير جزئي، فيكفر شخص أو هيئة، ومع مرور الزمن يكفر بلوازم تتعلق بالشخص أو الهيئة، فيقال -مثلاً-: من والى هذا الشخص أو والى هذا الهيئة فهو كافر، ومن لم يعلن كفر الكافر فهو كافر، وهكذا، وهذه نتائج طبيعية مع الزمن لابد أن تكون، والسعيد من وعظ بغيره.
ولنا في الأحداث القريبة والبعيدة شيء من العبرة، فقد حصلت قبل سنين أحداث التكفير والهجرة في مصر، ثم تفرقت الأمة، واحتوى كثير من شباب الأمة سفهاء الأحلام الذين يتعلموا عند العلماء، ثم جاءت الفتنة التي استهدف أصحابها بيت الله عز وجل، وكان أساسها التكفير، ثم الأحداث الأخيرة وما حدث من تفجيرات وغيرها من أمور شنيعة ضيعت الأمة وأوقعت ما أوقعت مما نعلم، فهذا كله نتيجة التكفير من أناس ليس لهم علم ولا فكر، مع عدم رعاية مثل هذه الظواهر وعلاجها من قبل طلاب العلم والمشايخ والولاة بشكل كافٍ.
فلذا يجب أن يتنبه طلاب العلم لمثل هذه المسائل؛ لأنها أصبحت ظواهر موجودة، وما دامت ظواهر موجودة فلابد أن تعالج، ولا تبرأ الذمة بالسكوت عنها، وكان بعض طلاب العلم الناصحون يقولون ذلك قبل أن تحدث الأحداث الأخيرة، فكان بعض الناس يقول: ربما يكون ذلك نزعات فردية، وليست مشكلة خطيرة، ولما وقع الفأس في الرأس تبين الناصح من الغافل.
فلذا يجب أن نتنبه وألا تتكرر العبرة مرة أخرى، وأنا أقول: بإمكان طلاب العلم أن يسهموا إسهاماً كبيراً في علاج ظواهر التشدد والتنطع في الدين والتكفير؛ لأن هذا يحمي الأمة ويجمع كلمتها على مشايخها وولاتها، وبإذن الله -إذا تضافرت الجهود- يضمن عدم تكرار مثل هذه الأعمال الشنيعة التي روعت الأمة وأوقعت الأمة في حرج، وكان مصدرها وأساسها هو الغلو في الدين، نسأل الله السلامة، والله أعلم.