قال رحمه الله تعالى: [وأما كتبه عندهم؛ فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم].
المؤلف هنا اختصر الكلام، وكأنه اعتمد على ما هو أصل عند جميع المسلمين، وهو: أن الكتب المنزلة من عند الله عز وجل هي كلامه.
فبنى على ذلك أن كلامهم في كلام الله عز وجل ينطبق على الكلام في الكتب، فإنهم إذا أنكروا الكلام الذي هو صفة الله عز وجل فإنهم سينكرون أن تكون الكتب من عنده، أو يفسرونها بتفسير لا يطابق الواقع، ولا يدل عليه الوحي، بل يفسرونها بأمور سيأتي ذكرها.
قال رحمه الله تعالى: [فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر].
العقل الفعال عندهم مجرد افتراض، فلو أردنا أن نعرف معنى العقل عندهم لوجدناه مجرد وهم وتصور ليس له حقيقة في الواقع.
وهم لا يعتقدون أن لمثل هذه المعاني حقيقة في الواقع، وإن كان بعضهم قد يقول بأن مثل هذه الأمور -كالعقل الفعال- تتلبس بمخلوقات أخرى، وقد ينسبونها إلى النجوم والكواكب، فبعضهم قد ينسب مثل هذا الاختلاف إلى أكبر الكواكب، أو إلى أصل الكواكب أو أصل النجوم كالقطبين، وكل هذه تفسيرات وهمية، والمهم: أنهم يجردون ذات الله عز وجل عن الوجود الفعلي، وينسبون ما يحدث من أمور خارقة لا يقدر عليها البشر إلى أمور غيبية، أو وهمية كالعقل الفعال، والعقل الفعال يقصدون به: القوة الخفية المدبرة للكون، وقد يقول بعضهم بأن العقل أيضاً يصدر أوامره وتوجيهاته إلى عقول أخرى تحت أمرة هذا العقل، وهذه العقول أيضاً تتجزأ مسئولياتها ثم تتفرع إلى عقول أخرى وهكذا، وقد يجعلون هذا عن طريق النجوم، أو عن طريق الملائكة بأسمائها، أو نحوها.
فالمهم: أن العقل الفعال يقصدون به وجوداً ذهنياً ليس له واقع، إنما هو قوة متوهمة -عندهم- تدبر الكون، وقد يعتقدون أن هذا العقل الفعال له وجود، وليس لهم على ذلك أدلة ولا براهين.
ومن هنا يبقى هذا الأمر مجرد وهم؛ لأن الشيء الغيبي الذي ليس عليه برهان من الله عز وجل من ادعاه بدون دليل فلابد أن يكون قد توهم.
فالأمر الغيبي لابد له من أحد أمرين: إما أن يكون هذا الغيب جاء عن طريق صحيح، وهو: الوحي المنزل من الله عز وجل، وهذا نؤمن به ونسلم.
وإما أن يكون مجرد توهم، والتوهم لا حقيقة له؛ لأنا نجزم قطعاً بأن الذين قالوا بوجود العقل الفعال لا يمكن أن يأتوا لنا بدليل على وجوده، إنما اضطرهم إليه إنكار وجود الله عز وجل الوجود الذاتي، فاضطروا إلى أن يؤمنوا بمدبر لهذا الكون، سواء أكان عقلاً أم قوة، أم روحاً أو نحو ذلك مما عبروا به، فقالوا بمدبر للكون وهم لا يؤمنون بالله، وإنما يؤمنون به تعالى إيماناً تجريدياً كما ذكرت، فلجئوا بعد ذلك إلى افتراض قوة تدبر الكون سموها العقل الفعال.
قال رحمه الله تعالى: [والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس؛ ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة! وقوة التخييل؛ ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم!].
الهيولى عادة يقصدون بها أموراً، منها: أصل الشيء، أصل الخلقة، أو -بتعبير المحدثين- مادة الخلق، أي: المادة الأساسية قبل أن يتجزأ الخلق إلى عناصر، فالأساس للخلق -سواء كان مادياً، أو قوة أخرى لها تأثير في حركة الكون- قد يعبرون عنه بالهيولى.
قال رحمه الله تعالى: [وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، فهم أشد الناس تكذيباً به وإنكاراً له].
وهذا يعني أنهم ينكرون أن يكون هناك ملك اسمه: جبريل ينزل بالوحي، وأن تكون هناك ملائكة تنزل وتصعد بأمر الله عز وجل، ينكرون ذلك كله، ويفسرونه بتفسيرات تجريدية وهمية ذهنية تخييلية، ويقولون: هذه تخييلات يعبر بها عن القوى المعنوية المدبرة للكون.