قال رحمه الله تعالى: [والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
قوله: (معلوم) من الأمور التي تشتبه على بعض الناس، فكثيراً ما ترد فيه الأسئلة: ما معنى كونه معلوماً؟ وهذه قاعدة في كل أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وفي كل أمور الغيب، فهذه القاعدة تشمل حتى أمور الغيب التي لا تتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته، كأمور الغيب التي تتعلق بالمخلوقات في أحوال القيامة، وفي أحوال الملائكة والجن، وأحوال السماوات والأرض، وغيرها من الأمور الغيبة التي لا تدركها حواس البشر، فإنها كلها تحكمها هذه القاعدة، فلو أن أحداً سأل عن الصراط: كيف الصراط؟ فإنا نقول له: الصراط معلوم، والكيف مجهول، وخبر الله عز وجل حق وصدق.
وأما قولنا: (معلوم) فيعني: أن حقيقته مدركة في الأذهان عند الإطلاق، أما الكيفية التي تتعلق بالشكل واللون والحجم والعدد ونحو ذلك؛ فهذه أمور لا تدركها العقول؛ لأنها لا تعرف إلا بالحواس، وكل الأمور الغيبية لا يمكن أن تدرك بالحواس، فأي أمر من الأمور الغيبية نقول: إنه معلوم، سواء في أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو في سائر أمور الغيب، فكلما جاءنا أمر من الأمور الغيبية نقول عنه: الأمر الفلاني الذي ذكره الله عز وجل معلوم، يعني: له حقيقة تليق به على ما خلقه الله عز وجل عليه، أو على ما أراد الله له، أو على ما كان في تقدير الله عز وجل إذا كان من الأمور الخبرية الغيبية، أما إذا كان في أسماء الله وصفاته؛ فنقول: الأمر الفلاني معلوم على الحقيقة على ما يليق بجلال الله.
إذاً: فكلمة معلوم معناها أن اللفظ له وجود فعلي يليق به، أما الكيف فهو يتعلق بالحجم والشكل واللون والخصائص التي تدرك بالأبصار وتدرك بسائر الحواس، فهذه أمور لا شك في أنها مجهولة، وهي المقصودة بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، بمعنى: أنه لا يمكن أن نتخيل له مثلاً، وما نتخيله أوهام يجب أن ننفيها عن الله، وإلا فلابد لكل من سمع شيئاً من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن يتخيل، فإذا تخيل فليعلم أن هذا الخيال إنما هو أمثال تضرب، لكنها ليست هي الكيفية.
إذاً: فالحقيقة تثبت في كل أمر غيبي، وكل ما أخبر الله به له حقيقة؛ نقول هذا لأن أغلب المؤولة قالوا: الألفاظ التي وردت في أخبار الله تعالى أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم إنما تنطبق على معانٍ مجردة ليس لها وجود فعلي، أي: إنما هي أمور معنوية، فالاستواء المقصود به: الهيمنة والملك، وهذا عدول عن مراد الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالهيمنة والملك بألفاظ أخرى، فيأتي هذا الوصف وله معنى أخص، لاسيما أن هذا الوصف قد قيد بمعان تدل على أن المقصود به حقيقة وجودية لا ذهنية معنوية.
فلابد إذاً أن تقال هذه القاعدة في كل شيء، فكل غيب معلوم، أي: له حقيقة وجودية، وله كيفية لا نعلمها، فنؤمن بالحقيقة ونتوقف في الخوض في الكيفية.