قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم].
في هذه الكلمات يشير الشارح إلى مذاهب الناس في أول واجب على المكلف، مع أن هذه المسألة محسومة شرعاً عند أهل السنة والجماعة، لكن مع ذلك تنازعت فيها الفرق، ولا شك في أن أول واجب على المكلف هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا أمر بدهي، وإنما النزاع: هل يلزمه إذا بلغ أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أم يكفيه إذا كان في بيئة مسلمة أن يكون مع المسلمين ويظهر الإسلام ويصلي ويصوم ويقيم الأركان؟ وهذا الثاني هو الصحيح؛ لأنه لا يلزم الإنسان في الدقيقة التي يبلغ بها سن الرشد أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إذا كان بين ظهراني المسلمين، هذا لا يلزم؛ لأنه مسلم في الأصل، ونشأ في المسلمين، فإذا صلى وصام وأقام شعائر الإسلام فهو مسلم، ولو لم يسمع نطقه بالشهادتين؛ لأنه عمل بالمقتضى الذي هو أقوى من النطق، عمل بمقتضى الشهادتين الذي هو أقوى من النطق، ومع ذلك قد يقال من باب التكلف: لو نطق لكان أفضل وإنما يلزم النطق بالشهادتين من دخل في الإسلام بعد الكفر، فهذا يلزمه النطق بهما؛ لأنهما مفتاح الدخول في الإسلام.
فكون الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أول واجب على المكلف أصل لا يختلف فيه أهل العلم المحققين من أئمة الدين، إنما النزاع جاء بعدما ظهر علم الكلام وظهرت القدرية والمتكلمة من الجهمية والمعتزلة ثم الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أتوا ببدع عظيمة في هذا الأمر، فقالوا: أول واجب على المكلف أن ينظر، فما معنى ينظر؟ يعني: يشك: من ربك؟ وما أدلة التوحيد؟ ثم كيف يعبد الله؟ ثم يشهد الشهادتين، وهذا إخراج للناس عن الفطرة وإدخال لهم في التيه والضلال والشك، بل هو دعوة إلى الإلحاد والانحراف؛ لأن الإنسان إذا شكك فقيل له: أين رأسك؟ فذهب ليلمسه؛ فإن تشكيكه في الله يؤدي لإثبات وجوده إلى طلبه بالحس! فلا ينبغي أن يكون النظر هو طريق الوصول إلى معرفة الله ووجوده وتوحيده ثم إلى عبادته ثم الخضوع والتسليم له، لا يجوز هذا؛ لأن مقتضى الفطرة أن الإنسان على التوحيد، ومقتضى الفطرة أنه مسلم لله تعالى، فإذا نشأ مسلماً بين المسلمين فهو -بالضرورة- عارف للإسلام وعارف لوجود الله ووحدانيته.
ثم إن الدخول في إثبات الوحدانية والتوحيد بالأدلة العقلية لا يستوعبه كل الناس؛ لأنهم ينشئون على الفطرة التي هي الإيمان بالله، ومن حاول أن يزداد يقيناً عن طريق الشبهات العقلية فإنه لن يزداد إلا شكاً، إلا قلة من المتمكنين الذين يريدون أن يثبتوا لبعض الملاحدة أو من في قلوبهم شبهات هذه الأمور؛ أما أن يكون ذلك مسلكاً لكل مسلم يسلك فيه إلى الإسلام أو الإيمان؛ فهذا من الباطل قطعاً، بل يؤدي إلى الشك؛ ولذلك وردت قصة صحيحة رواها كثير من الكتاب في الملل والنحل وغيرهم للرازي المتكلم، وذكرتها أكثر من مرة، لكن لها في هذا الموطن مناسبة.
يقولون: إن الرازي مر ذات مرة بعجوز كانت تتشمس أمام بابها ومعه حشد من طلاب علم الكلام وراءه يكتبون ما يقول، فعجبت من هذا الرجل فسألت سؤال الساذج، فقالت: من هذا؟! قالوا: أما تعرفينه يرحمك الله؟! قالت: لا، أهو الملك؟ أهو السلطان؟ قالوا: لا، قالت: أهو الوالي؟ أهو القائد؟ أهو فلان؟ قالوا: لا.
ثم قالوا: هذا من يملك على وجود الله ألف دليل، قالت: تباً له، والله تعس، إن كان ذلك ففي قلبه ألف شك، أفي الله شك؟! وهذا نداء الفطرة، فهذه ما عندها شك في وجود الله، وكذلك غيرها من عامة المسلمين، بل إن المتعلمين وطلاب العلم إذا بقوا على فطرتهم فما جاءتهم الشبهات والأهواء فالأصل فيهم التسليم لله تعالى بالجملة، ويحتاجون إلى تفصيل الشرائع فقط وتفصل العقائد التي وردت، وهي غيب لا يعلمه إلا الله.
أما مسألة وجود الله فالباحث عنها كمن يجلس في الشمس ثم يقول: اثبتوا لي أن الشمس طالعة، فماذا يقال عنه؟ أهو عاقل؟! بل غير عاقل، ففي عقله خلل.