قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين): اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا.
ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً به بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد ويقدح في الامتثال.
قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر: فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه فلا بأس به؛ فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره.
قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، قال: فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها ونشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها.
انتهى.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، رواه الترمذي وغيره، ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بين له الصواب؛ ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله): قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود): الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة، وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته، ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها؟! ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم].