قال رحمه الله تعالى: [وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنّ الكافر شاء الكفر؛ فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه، ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي: حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده! لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات.
وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده! لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر).
قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام) إلى آخره من كلام ابن عباس، وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده).
وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم.
قال المجوسي: حتى يريد الله.
فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما! ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت، فادعوا الله أن يردها عليّ.
فقال عمرو بن عبيد: اللهم! إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟! قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد!].
هذا الأعرابي كان أفقه من عمرو بن عبيد في الدين، وهذه القصة لو قدر أنها لم تصح، فلسنا في حاجة إلى أن نتأكد من سندها، فهي تحكي واقعاً صحيحاً في مسألة استقامة أكثر العوام على الفطرة في المسائل الغيبية؛ لأنهم لم يرد عليهم ما يفسد الفطرة، فهذا الأعرابي على الفطرة، كالعجوز التي ردت على الرازي، وككثير من العوام الذين يلهمون الحق في فطرتهم.
فيبدو لي أن القصة -حتى لو لم تصح- مستقيمة في رد قواعد القدرية بأصول الفطرة، فإن عمرو بن عبيد حينما دعا بهذا الدعاء الذي هو فرع عن عقيدته الباطلة -وهو قوله: إنك لم ترد أن تسرق ناقته- كأنه بذلك أخرج هذا الفعل الذي حصل من إرادة الله وعلمه ومشيئته، وكأن السرق لم يكن في سابق علم الله، ولا بإرادته ولا مشيئته، فهذا يعني أنه جعل هناك مشيئة دون مشيئة الله، فجعل مع الله مدبراً وجعل مع الله رباً آخر وهو يشعر أو لا يشعر.
فالأعرابي بفطرته خشي من هذه العقيدة الباطلة أن تكون سبباً في عدم رد ناقته أيضاً، فرد عليه بهذا الرد الفطري السليم الموجز الخالي من التعقيد ومن الفسلفة، لكن من يرد الله له الضلال لا يمكن أن يهتدي حتى بأوضح الأدلة، والمشركون قامت عليهم الأدلة بأوضح من هذا الدليل في القرآن، وفي آيات الله المنظورة والبينة، ومع ذلك لم يهتدوا، فقد رأوا انشقاق القمر حينما طلبوا، ومع ذلك قالوا: هذا سحر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء].
هذا أيضاً رد فطري شرعي، فالله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء، ويفعل في عباده وخلقه ما يشاء، فلا يجوز مثل ذلك الافتراض الذي افترض.