قال رحمه الله تعالى: [فكيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير اتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل: أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول تطلب الفرع كي تصحح أصلاً كيف أغفلت علم أصل الأصول ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل كثير البركة].
لعلنا نورد مثالاً على كلام المتقدمين وكلام المتأخرين، أقصد بالمتأخرين أولئك الذين سلكوا مسلك علم الكلام في تقرير العقيدة، الذين انتهجوا علم الكلام في تقرير العقيدة، فنجد أن الفرق بينهم وبين السلف في تقرير العقيدة واضح جداً، فنأخذ صفة من صفات الله وهي صفة الاستواء، فالسلف يقولون: (الرحمن على العرش استوى) ولا يزيدون، كلمة هي لفظ كلام الله تعالى لا يزيدون فيها ولا ينقصون، وكذلك أتباعهم إلى يومنا هذا، لكن المتكلمين الذين أولوا الاستواء خاضوا في تأويله بألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة وتزيد المتكلم شكاً وريبة، بل تلبس على المعتقد وتجعله لا يستقر على عقيدة، فنجد في كتبهم في تقرير الاستواء أنهم يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، ثم يقولون: إن الاستواء يكون بغير مماسة ولا اعتماد، وبغير مكان وبغير زمان، ولا هو مباين ولا محايث، هذه كله في تقرير الاستواء، كلام لا طائل تحته إلا مرض القلب وإدخال الشبهات على الناس، وكل ذلك لم يرد في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا على ألسنة السلف، فالسلف يقررون -كما قال الرازي في آخر حياته- أن الرحمن على العرش استوى فقط، بدون خوض؛ ولا يمكن أن يدرك أكثر من معاني الألفاظ الظاهرة، فالله ليس كمثله شيء، لكن نجد في تقرير الاستواء عند بعض المتكلمين أنه قد يكتب عشرين أو ثلاثين صفحة في تقرير معنى الاستواء، فتأتي في ذهنه هذه الشبهات، ويكون عنده الاعتقاد هو النفي وليس الإثبات، فكأنه يصف معدوماً ويزعم أنه ربه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال رحمه الله تعالى: [لا كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم وإن طريقتنا أحكم وأعلم.
وكما يقوله من لم يقدرهم قدرهم من المنتسبين إلى الفقه: إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالاً منهم بغيره، والمتأخرون تفرغوا لذلك، فهم أفقه! فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدرا].
ذكر الشارح أن ضُلاَّل المتكلمين يقولون بأن طريقة الصحابة والتابعين وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة أسلم في الاعتقاد، لكن طريقة المتكلمين -زعموا- أعلم وأحكم، وهذه دعوى فيها تلبيس وفيها إيهام، فهم يقولون بأن السلف في صفات الله عندهم شيء من طيبة القلوب وسلامة الصدور وعدم القدرة على التعمق في العلوم، فقالوا: غاية ما يقال عن السلف أنهم سليمو القلوب، قلوبهم سليمة، لذلك ما استطاعوا أن يخوضوا في معاني صفات الله وأن يقولوا بذاك الكلام الذي قال به المتكلمون، وهذه شبهة من شبهات ودسائس الشيطان؛ لأن الصحيح الذي نعتقده جزماً أن دين السلف وطريقتهم أسلم وأعلم وأحكم، وأن دعوى المتكلمين بأن طريقتهم أعلم وأحكم دعوى باطلة؛ لأن هذا يعني أنه بقي علم لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بقيت حكمة لم يظهرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل في أمر الاعتقاد.
قد يقال هذا في بعض مسائل الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد متجدد، وقد يدرك الآخر ما لا يدركه الأول إذا آتاه الله علماً وقدرة، فهذا في أمور الاجتهاد قد يرد في بعض المسائل، أما في الجملة فلا شك في أن اجتهاد السلف من الصحابة والتابعين أعلم وأسلم وأحكم من جملة اجتهاد المتأخرين، لكن قد يرد في مفردات المسائل أنه يأتي المتأخر فيعي ما لا يعيه المتقدم في بعض الجزئيات، وهذا في الأمور الاجتهادية.
أما في الأمور العقيدية فلا يمكن، ولا يتأتى أن تكون طريقة المتأخرين أعلم وأحكم؛ لأن الأسلم لا بد من أن يكون أعلم، والأسلم لا بد من أن يكون أحكم، لاسيما في الاعتقاد، وإذا فصلنا بين السلامة والعلم والحكمة فهذا يعني أنا جعلنا للدين ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو ما عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة، والباطن هو ما أدركه المتأخرون، وهذا هو بعينه الباطل والضلال، نسأل الله العافية.