قال رحمه الله تعالى: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة].
سينكر الشيخ هذه الأمور بعدة وجوه كما سيأتي.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: ذريته].
هذه الاعتراضات الثلاثة يجاب عليها بجواب واحد، فالإشكال فيها واحد، وهو مسألة مرجع الضمائر، فالأحاديث تشير إلى أن الله عز وجل أخذ من ظهر آدم ذريته وأشهدهم، وأنهم نطقوا، وأن الله كلمهم قبلاً، يعني: كفاحاً.
والآية فيها إشارة إلى بني آدم، فكأنه -أي: الشارح- يقول: إن هناك فرقاً بين آدم وبني آدم، فإذا كان الأمر كذلك فالآية لا تدل على هذا الإشهاد الحقيقي، إنما تدل على أمر معنوي.
والجواب عليه: أنه لا تنافي بين الأمرين، فالآية مجملة والحديث مبين، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن ما يتعلق بالضمائر؛ إذ الأحاديث أشارت إلى آدم بنفسه، وأن الإشهاد حدث عليه وعلى من أخذ من ظهره، والآية أشارت إلى مجموع بني آدم، ما يتعلق بذلك لا تنافي فيه بين الأمرين كما قال أهل العلم؛ لأنه يجوز -بل ربما كان من لوازم أخذ ذرية آدم من ظهره- أن يكون أخذ ذرية بعضهم من ظهور ذرية بعض.
وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل، فما الذي يمنع أن الله عز وجل حينما أخذ من آدم ذريته جعل الذرية تتداخل، وما هناك ما يمنع من هذا، بل شواهد النصوص وقرائن الأدلة تدل على هذا، وهو أن الإشهاد تم بهذه الطريقة: أن الله أخذ ذرية آدم من ظهره هو، ولزم من ذلك أخذ ذرية كل شخص من ظهره، وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل التي لا حد لها، فلا داعي لتكلف إنكار الإشهاد الحقيقي واعتباره مجرد إشهاد معنوي أو ميثاق معنوي مع أنه يمكن الجمع بينهما.
وقد ذكرت وجه الجمع بأنه لا تنافي أبداً في أن يكون الميثاق حدث فعلاً وبقي أثره، والناس في الدنيا لا يذكرون مشهد الميثاق لو لم يأت به القرآن، ونسيانهم له لا يعني نسيان أصل العهد، وهذا مما يحدث في حياة الناس، فالإنسان مثلاً قد تحدث له حادثة في مرحلة من مراحل عمره، حادثة لها شيء من التفاصيل، وينبني على هذه الحادثة مواقف معينة أو عقود أو عهود، ثم يمضي الزمن وينسى الحادثة، فيأتي من يذكره، فقد لا يذكر إلا العهد، ولكن ينسى التفاصيل، فعلى هذا تقوم الحجة بما عرفه الإنسان من ثمار الحادث وما ترتب عليه من عهود وإشهاد ونحو ذلك، ولو نسي التفاصيل.
وكذلك الميثاق، فقد يكون الله عز وجل قدر لبني آدم ألا يستذكروا كلهم تفاصيل الإشهاد، لكن بقي موجبه، وبقيت لوازمه، وهذا أمر يدركه كل عاقل في آيات الله عز وجل الشرعية والكونية.
قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار كما تأتي الإشارة إلى ذلك، لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.
ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173]، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: ألا يدَّعو الغفلة أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره.
ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: