قال رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه، فقال قوم: معنى الآية: أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض.
قالوا: ومعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]: دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] أي: قال، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، ذهب إلى هذا القفال وأطنب].
أكثر من ينتصر لهذا القول أهل الكلام، وقال به بعض السلف فعلاً، لكنه لا يناقض القول الأول، والأدلة متوجهة على أن نوعي الميثاق موجودان، فالأول وردت به النصوص وهو غيبي، والثاني تدل عليه دلائل الفطرة والخلق، ولا تناقض بين الأمرين؛ لأن هذا تدل عليه النصوص وهذا تدل عليه النصوص، فأصحاب هذا القول الأول فسروا الميثاق ببعض معانيه.
قال رحمه الله تعالى: [وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.
ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إلى آخر كلامه.
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي)، ولكن قد روي من طريق آخر: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار) وليس فيه: (في ظهر آدم)، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول].
المقصود بالقول الأول القول بأن الإشهاد إشهاد فعلي، بمعنى الاستنطاق، وأن الله عز وجل كلم هذه الذرية قبلاً، وأنهم قالوا: شهدنا.
هذا هو القول الأول، وهذا الذي تدل عليه ظواهر النصوص.
والقول الثاني في نظري صحيح، وتدل عليه أيضاً نصوص أخرى، فلا تنافي بين القولين، فالإشارة إلى التعجب تنتهي أو تزول إذا أخذنا بهذا الجمع، أي: بالجمع بين النصوص على هذا النحو، بأن يكون الميثاق ميثاقان: ميثاق أول، ثم بقي أثره في فطر الخلق وفي دلائل وبراهين خلق الله عز وجل في الكون والأنفس وفي الشرع.