موقف السلف والتابعين لهم وأئمة الدين من أهل الكلام

قال رحمه الله تعالى: [وهذه كانت طريقة السابقين الأولين، وهي طريقة التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين، ثم من بعدهم، ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة.

فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لـ بشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة.

أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره؛ فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله، فيكون علماً بهذا الاعتبار، والله أعلم.

وعنه أيضا أنه قال: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب].

يقصد بمن طلب المال بالكيمياء طائفة من الذين كانوا يحترفون الكيمياء قديماً، فالكيمياء علم من العلوم، لكن هناك طائفة من الدجالين ومن المحترفين قديماً كانوا يتعلمون الكيمياء من أجل أن يراهنوا به العامة، فيأتون للعامي الذي لا يدرك أسرار هذا العلم فيقولون له: نحن نستطيع أن نقلب هذا العنصر من نوع إلى نوع أو من لون إلى لون، فيراهن على ذلك ظناً منه أن هذا مستحيل، فيحولون له السائل إلى جامد والجامد إلى سائل، ويحولون له لون كذا إلى لون كذا وهو يرى ولا يدرك سر التحول من هذا العنصر إلى هذا العنصر، فيغلب ويدفع المال بغير حق، فكانوا -أي: أصحاب الكيمياء أو طائفة منهم- في ذلك الوقت يستعملونها فيما يشبه القمار، يقامرون بها مقامرة ويراهنون بها ويأكلون أموال الناس بالباطل، فكان هذا من الكسب الحرام، وصاحبه في الغالب أنه يفلج في النهاية.

وكذلك طلب غريب الحديث، فبعض الناس لا ينظر من الحديث إلا إلى الغرائب والشواذ، أو إلى الحديث الضعيف أو الموضوع، ويقول: أريد أن أخدم الحديث من هذا الجانب، وهذا مسلك خطير؛ لأن من تعلق بالغريب أو تعلق بالموضوع والضعيف أو تعلق بأمور تضر قلبه فإنه في الغالب لا بد من أن يتأثر بهذا المسلك.

وربما كان في عهد أبي يوسف طائفة من الوضاعين يهتمون بهذه الأمور يلبسون على الناس ويخلطون الأحاديث الصحيحة بالضعيفة وغيرها.

قال رحمه الله تعالى: [وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام].

المصيبة أنه في الآونة الأخيرة -بل بعد القرن الثالث الهجري وبعد كلام أبي يوسف والشافعي هذا بمدة- انقلب الحال، فصارت أغلب الفرق التي تدعي السنة تبدأ في تعلم العقيدة بعلم الكلام، فأول ما يبدءون به في تعليم الناشئة والمتعلمين من العقيدة هو علم الكلام، فيقرءون أمثال كتاب الجوهرة، ومقدمات علم الكلام قبل أن يفهموا من العقيدة شيئاً، فمن هنا ظهرت أجيال من المسلمين كثيرة لا تعرف من العقيدة إلا ما كان على نهج أهل الكلام، حتى ظنوا أن هذا هو السنة، والتبس الأمر على كثير من المسلمين إلى يومنا هذا، كما سيأتي تفصيله -إن شاء الله تعالى- في درس قادم.

قال رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين].

قد يفهم بعض الناس من مثل هذه الأبيات أن الشافعي وغيره من أئمة الدين لا يرون تعلم العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وغيرها التي تنفع المسلمين، وهذا فهم خاطئ؛ فإن كلام الشافعي هذا وكلام غيره من أهل العلم الذين قصروا العلم على (قال الله وقال رسوله) يقصدون به العلم الشرعي إذا تلقي وأخذ من غير الكتاب والسنة، فإن هذا مهلكة؛ نظراً لأن السلف كانوا يطلقون العلم على العلم الشرعي، فإذا وردت كلمة العلم في الكتاب والسنة وعلى ألسنة السلف فإنما يعنون بها العلم الشرعي، فكأن الشافعي وغيره يقولون: من طلب العلم الشرعي من غير الكتاب والسنة -كأن أخذه عن مجرد العقول أو عن الفلسفة أو عن علم الكلام أو عن آراء الرجال أو عن أهواء الأشخاص أو عن مصادر التلقي عند الآخرين، كتلقيه عمن يسمون بالأئمة المعصومين عند الشيعة، أو الأولياء عند المتصوفة، أو تلقيه عما يسمى بمصادر الكشف والذوق والأحلام وغيره- من طلبه من غيرهما فطلبه ليس بعلم، إنما هو مهلكة.

إذاً: الكلام لا يندرج تحته ما يتعلق بالعلوم الإنسانية التي تنفع المسلمين أو العلوم التطبيقية؛ لأن تلك ليست علوماً إلا إذا قيدت، فلا يقال في الطب -مثلاً-: علم دون تقييد، بل يقال: علم الطب، علم الفلك، علم الكيمياء، علم الفيزياء، فيقيد.

أما العلم المطلق الذي ورد ذكره في القرآن والسنة بالثناء على أهله والأمر بتحصيله، والأجر على تحصيله؛ فهو العلم الشرعي.

أما غيره من العلوم فإن الإنسان يؤجر فيه بقدر نيته، كما يؤجر طالب التجارة، وكما يؤج

طور بواسطة نورين ميديا © 2015