قال رحمه الله تعالى: [وتارة يقول: (بجاه فلان عندك)، أو يقول: (نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك) ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا.
وهذا أيضاً محذور؛ فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه].
السؤال بالجاه أعظم وأكبر ذرائع أهل البدع قديماً وحديثاً إلى الشرك والبدعيات، فتعلقهم بجاه الغير من أعظم الذرائع التي يتعلقون بها ويتذرعون بها إلى أفعالهم الشركية والبدعية، وذلك أنهم زعموا -كما زعم المشركون قديماً- أن عندهم من التقصير والذنوب ما يجعلهم لا يجرءون على أن يدعوا الله مباشرة، وهذه شبهة من شبه الشيطان، فزعموا أن هؤلاء الصالحين والأنبياء والملائكة لهم جاه عظيم، فجعلوا هذا الجاه هو الوسيلة أو الوسيط، وزعموا أنه يدخل في الوسيلة المشروعة، مع أنه هو الشرك بعينه، فالسؤال بجاه فلان معناه أنه يتخذ هذا الجاه وسيطاً بينه وبين ربه، والوسيط هو الشريك وهو الند، وهو الواسطة التي ادعاها المشركون، وعدهم الله بها من المشركين، بل عدهم الله من أعظم الناس شركاً.
فالسؤال بالجاه هو تعلق بالغير، ولو لم يتعلق بشخصه، فالتعلق بالجاه كالتعلق بالشخص لا فرق بينهما، إلا أن التعلق بالجاه أكثر التباساً، فبعض أهل البدع قد لا يجرؤ على أن يجعل ذات فلان أو شخص فلان هو الوسيط بينه وبين ربه فيشرك به، إنما يجعل الجاه وسيطاً، والجاه أمر معنوي.
وهذا أيضاً نوع من الشرك فيه غموض وفيه التباس، فلذلك صار أعظم ذرائع المشركين وأهل البدع الذين يدعون الإسلام في عصرنا هذا وقبله.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك؛ إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس].
هذه الحجة حجة قوية وقاطعة، وتسد باب الاستدلال على أهل الأهواء الذين زعموا أن قصة استشفاع الصحابة بـ العباس دليل على جواز الاستشفاع بالذوات أو دعاء الذوات ودعاء الأشخاص من دون الله والتعلق بهم.
وهذه الحجة التي ذكرها الشارح هي أن الصحابة لو كان مقصودهم الاستشفاع بذات العباس لكانت ذات النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته قريب إليهم، فهو مدفون بين ظهرانيهم، ولذا لما اضطروا إلى الاستشفاع استشفعوا بـ العباس، ثم إنهم حينما استشفعوا عرفنا الصورة التي استشفعوا بها، فالصورة العملية التي استشفعوا بها عرفناها قطعاً من خلال الرواية الثابتة ومن خلال إجماع الصحابة على الفعل، وهي: أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا الدعاء من هؤلاء الأشخاص، ولا يقصدون التمسح بذوات هؤلاء الأشخاص كـ العباس أو غيره، إنما طلبوا الدعاء، وهذا أمر معلوم بالروايات القاطعة الدالة على أنهم حينما اجتمعوا دعوا الله وطلبوا من العباس أن يدعو وهم يؤمنون بعده.
فهذه الصورة في الاستشفاع بالأحياء فيما يقدرون عليه، أو بدعائهم، وكل الصور التي وردت عن السلف -سواء في عهد الصحابة أو بعدهم- ترجع إلى هذه الصورة، لم يرد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم أنهم استشفعوا بالذوات.