قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق): الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً رضي الله عنهم، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بالبداية والنهاية، فمنها: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء)].
الحوض حوض حسي بأوصافه التي ذكرت، وهناك من أنكر الحوض، لكنهم قلة من شذاذ الجهمية وبعض المعتزلة وبعض الزنادقة، فالذين أنكروا الحوض شذاذ؛ إذ كثير من الفرق يثبتون الحوض.
قال رحمه الله تعالى: [وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصيحابي.
فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) ورواه مسلم].
واختلف في معنى هذا الحديث اختلافاً كثيراً؛ لأن الرافضة اتخذته ذريعة للقول بتكفير الصحابة، وزعمت أن هذا يعني ردة الصحابة وكفرهم، وقد كذبوا؛ فإن الحديث عند أهل العلم محمول على أن هذا ينصرف إلى أهل الردة الذين كانوا دانوا بالإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رجعوا عن الإسلام، وكثير منهم مات مرتداً، فينطبق الحديث على طوائف منهم.
ومنهم من قال بأن الحديث ينطبق على طوائف من الأمة بعد الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الصحابة لم يحدثوا بالأهواء والافتراق، وأن كلمة (أصيحابي) لا تعني الصحبة بمصطلحها المعهود، إنما تعني التبعية والإيمان به، وبعضهم قال: إن هذا يقع في طائفة من الأمة يطردون من ورود الحوض، لكنهم لا يطردون من الجنة؛ فيعني ذلك أنهم لا يطردون من الجنة وإنما يطردون من ورود الحوض فقط لأفعال فعلوها اقتضت ذلك، وغير ذلك مما قاله أهل العلم، وهو بعيد كل البعد عما ذكره الرافضة وغيرهم، لا سيما أن عدالة الصحابة، وأنهم من أهل الجنة بالجملة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض مما اتفق عليه سلف الأمة، وليس محل إشكال.
ثم إن هذا الحديث لم يفهمه أهل العلم على ما قالت الرافضة من أنه يعم الصحابة، إنما كان في أناس قد يكونون من المنافقين الذين كانوا يتظاهرون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكونون ممن خالفوا في بعض الأمور أو أذنبوا ذنوباً أدت إلى حرمانهم من الحوض دون أن يدخلوا الجنة، وقد يكونون من هذه الأمة ولا يلزم أن يكونوا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، إلى آخر ما ذكره أهل العلم في ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أنزلت عين آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال: وهل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم فأقول: يا رب! إنه من أمتي.
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)].
هذا فيه دليل على التفسير الذي فسر به بعض السلف الحديث السابق وأمثاله، وهو أن المقصود أصحابه من أمته؛ لأن كل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب له، وأنه ليس المقصود الصحابة بالضرورة.
قال رحمه الله تعالى: [ورواه مسلم ولفظه: (هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة) والباقي مثله.
ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يختلج عنه ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط].
هذا التفسير قد عارضه بعض أهل العلم، أي: استنتاج أن الحوض في العرصات قبل الصراط، وقالوا: إن الاختلاج عن الحوض والردة على الأعقاب لا تعني الردة عن الإسلام جملة، إنما تعني الإحداث في الدين أو ارتكاب بعض الذنوب مما اقتضى حرمانهم من الحوض، ولا يلزم بالضرورة أن يكون المرء منهم من أهل النار أو ألا يكون من أهل الجنة، وهذا ليس فيه دلالة على أن الحوض قبل الصراط، بل قالوا: إن الحوض بعد الصراط، وإن كان الذين تجاوزوا الصراط كلهم من الناجين، فإن نجاتهم لا تعني أنهم بالضرورة يردون الحوض، فقد يكونون من أهل الجنة وينجون من الصراط، لكنهم يمنعون من الشرب من الحوض لأسباب أخرى، والله أعلم.
وهناك كلام في هل الحوض يورد مرتين: مرة في المحشر ومرة بعد الصراط؟ أم أنه حوض واحد ويكون بعد الصراط أو قبل الصراط؟ وكل هذا ليس فيه