قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة): اختلف الناس في الإسراء].
إذا اختلف الناس هنا فلا يعني ذلك اختلاف أهل الحق، بل يعني الناس عموماً وفيهم الذين شذوا في الآراء أو الذين ذلوا من أهل العلم، أو من نسب إليهم قول ولم يثبت، أو أهل الأهواء يعدون من جملة القائلين عند التفصيل، لكن القول الذي يعارض الكتاب والسنة يرد وإن ذكر.
قال رحمه الله تعالى: [فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه].
هذا القول لم يثبت من طريق صحيحة، وإذا ثبت فإنه محمول -كما سيذكر الشارح بعد قليل- على أن الإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، أما القول بأن الإسراء كان مناماً فهو شاذ كما سيأتي تفصيله، لا يصح أبداً، وهو خلاف قول الجمهور، بل اتفق أئمة السلف المقتدى بهم في الدين على أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم والإسراء به كان بجثته وروحه.
قال رحمه الله تعالى: [لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـ عائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.
وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات].
هذا القول لا يثبت، فالإسراء إنما كان مرة واحدة، وسبب هذا القول الاضطراب في حديث شريك، وحديث شريك لم يعتد به أهل العلم؛ لأنه فيه نوع اضطراب، وفيه جوانب شاذة عن رواية الثقات، فلا يؤخذ به في أمر غيبي، فالإسراء كان يقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، وإنما حدث مرة واحدة.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين.
ذكره ابن عبد البر.
قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله.
انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله].